محمد كمال باحث مساعد في منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، حيث يعمل على حماية حقوق الإنسان في مصر والمنطقة.
لم تتراجع السجينة السياسية المصرية السابقة نهى قاسم في اجابتها عندما سُئلت عما إذا كانت لديها رسالة للحكومة المصرية، التي أجبرتها على الخروج إلى المنفى في عام 2019، حيث قالت في مقابلة مع مجلة الديمقراطية في المنفى: "رسالتي إلى نظام الانقلاب – وأتمنى أن تحافظوا على هذه الصياغة ولا تغيروها لـ"السلطات المصرية" – هي أنهم مجرمون وما يحدث في مصر جريمة ضد الإنسانية وجريمة في حق الوطن". "التاريخ سيحاسبك."
وقد اعتقلت نهى قاسم، وهي طبيبة ومعالجة نفسية، في مصر في يناير/كانون الثاني 2018، بتهمة الاعتداء على قاض وتمت تبرئتها بعد شهر. وفي يناير/كانون الثاني 2019، هربت من مصر، واستقرت في نهاية المطاف في إسطنبول مثل العديد من المنفيين السياسيين العرب.
تعد نهى قاسم ناشطة سياسية منذ فترة طويلة حيث قامت بتنسيق مستشفى ميداني متنقل في الإسكندرية طوال الانتفاضة الشعبية عام 2011 ضد نظام الرئيس حسني مبارك. وشاركت لاحقًا في الاحتجاجات في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة عام 2013 ضد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي بعد ما يزيد قليلاً عن عام من انتخابه. في ظل نظامي مبارك وعبد الفتاح السيسي، قدمت نهى قاسم الدعم كطبيبة نفسية للمعتقلين السابقين الذين تعرضوا للتعذيب أثناء احتجازهم لدى الشرطة المصرية، وكذلك لعائلاتهم.
تعيش نهى قاسم مع بناتها الثلاث في اسطنبول. وكان زوجها محمود عبد المؤمن يملك شركة مستلزمات طبية، وكان الرئيس المنتخب لنقابة العلماء بالإسكندرية، حتى ألقي القبض عليه في مارس/آذار 2015. وتروي قاسم: "لقد اختفى قسرياً لمدة أسبوع كامل، وكان محتجزا من قبل المدعي العام العسكري. وبما أن زوجي مدني، اعتقدت أن هناك خطأ ما."
وقد اتُهم بالتورط في تفجيرات المباني الحكومية في الإسكندرية، وقد نفى هذه التهم بشدة. وتروي نهى: "من أغرب الأمور أن زوجي خلال التحقيق مع النيابة سأل المحقق عن مواعيد هذه التفجيرات المتهم بها. رد المدعي العسكري بالقول انه لا يعرف تواريخ هذه التفجيرات. ومنذ هذه اللحظة، أصبحنا مقتنعين بأن كل شيء كان مسرحية".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، حكمت عليه محكمة عسكرية مصرية بالسجن المؤبد. وقالت نهى: "لم يكن هناك أي دليل على تورط زوجي في أي من هذه الحوادث. لقد وقع حكمه علينا مثل الصاعقة."
تم تحرير النص التالي بشكل طفيف من أجل طول النص ووضوحه.
إن ما يحدث في مصر هو جريمة ضد حرية وإنسانية كل المصريين، ليس داخل السجون فحسب، بل في جميع أنحاء البلاد حيث تنتهك حقوق كل مصري.
-نهى قاسم
هل يمكن أن تخبرينا عن حياتك قبل ثورة 2011 ؟
الحياة في مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من ينايرعام 2011 كانت قد وصلت إلى مرحلة صعبة جدا. أثناء دراستي الجامعية، كنت أشارك في تظاهرات الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ومن خلال مشاركتي في الانتخابات البرلمانية في عامي 0200 و 2005 كنت اتمنى أن تتقدم مصر للأمام وكنت احلم بالتغيير الإيجابي لبلادي ولكن كانت كل هذه الجهود والأحلام لم تتحقق.
عندما التحقت بالجامعة انضممت إلى حركة الشباب الإسلامي وانخرطت في المجال الطبي بالإسكندرية. وفي نهاية تخرجي من الجامعة وأثناء التدريب الطبي، كنت منخرطًة في مؤسسة صناع الحياة [منظمة غير حكومية في مصر] وكنت مسؤولة عن إدارة مواردها البشرية. لقد كنت أحد الناشطين الرئيسيين الذين حضروا جميع المظاهرات التي شهدتها جامعة الإسكندرية، بما في ذلك مظاهرات أبريل/نيسان 2002، عندما اعتدت علينا قوات الشرطة مما أدى إلى استشهاد أحد طلاب الجامعة.
كنت ناشطًة في نقابة الأطباء المصرية بعد تخرجي من كلية الطب. كأطباء شباب، أردنا إصلاح النظام الطبي في مصر وتقديم رعاية صحية عالية الجودة، لكننا واجهنا دائمًا الفساد والمنظومة الفاسدة في مصر. إن محاولاتنا للإصلاح كانت دائماً يقف أمامها الفساد ليعيقها.
كان الإصلاح مستحيلا، وهو ما أعتقد أنه كان الدافع وراء ثورة 25 يناير 2011. منذ أول يوم لنا في الشارع، شعرنا أننا بذلنا كل ما في وسعنا فإما أن نموت أو نصلحها. وهذا ما شعرنا به طوال تلك الأيام الثمانية عشر للثورة المصرية.
لم أتظاهر خلال الثورة في ميدان التحرير بالقاهرة ولكني كنت أشارك في محافظة الإسكندرية وكنت أقوم بدوري كمنسقة المستشفى الميداني المتنقل بمحافظة الإسكندرية بما أنني كنت عضواً في نقابة الأطباء. أنشأنا المستشفى الميداني بسبب الحاجة للأطباء والعلاج بسبب الإصابات التي أصيب بها المتظاهرين من قبل قوات الشرطة. قمنا بتوفير باص صغير يحتوي على معدات العلاج والإسعافات الأولية وأصبحنا نزيد من قدراتها حسب الاحتياجات وأصبحنا نصاحب المظاهرات ونجوب كل شوارع الإسكندرية حتى يوم تنحي مبارك.
كيف أثر الانقلاب العسكري في عام 2013 عليك وعلى عائلتك؟
بعد الثورة، حدث تحول نوعي في النشاط السياسي. لقد غيرت الثورة الأمور. كل ما ذكرته عن فترة ما قبل الثورة كان محاولات يائسة لإصلاح الوضع لكننا واجهنا دائمًا حاجز فساد الدولة. بعد 25 يناير/كانون الثاني، كنا نتحرك في أفق أوسع؛ لم يعد هناك حاجز الدولة الذي يمنعنا بشكل فعال.
بعد تولي الدكتور مرسي الرئاسة بدأنا نتواصل مع فريق الرئاسة ونوصل مشاريعنا ونوصل الأفكار اللي كنا نعمل عليها وبدأنا نسعى في هذا حتى فوجئنا بما حدث في انقلاب 3 يوليو 2013. توقف كل شيء بعد الانقلاب.
كنت أحاول السعي للحفاظ على إرادتي الحرة التي انتخبت الرئيس الراحل محمد مرسي ولم أكن مستعدة أن أقبل أن يأتي أحد على رأس دبابة ويقتل هذه الأحلام والإرادة ويلغي صوتي الانتخابي وأصوات الملايين الذين انتخبوا محمد مرسي بغض النظر عن عدم سعادتنا بأدائه في العام الذي حكم فيه مرسي. مثلما ذكرت، كنا بدأنا في وضع بعض المشروعات ولكنها لم تكن تسير بشكل جيد ولم نستطيع تطبيقها بشكل كامل ولكننا لمسنا أثناء حكم مرسي إرادة ورغبة حقيقية لتحقيق هذه المشروعات. كان مرسي اختيارنا ونتيجة تصويتنا، وإذا كان هناك من يريد تغييره، يقوم بتغييره بنفس الطريقة التي تم اختياره بها وهي الصندوق الانتخابي ويقدم مشرع مختلف يختار الناس مرشحهم بناء عليه. ولكن أن تأتي دبابة عسكرية تملك القوة الغاشمة وتقوم بإلغاء صوتي وأصوات الملايين فذلك أمر مرفوض بالنسبة لي.
كنت من أوائل الناس الذين اعتصموا في ميدان رابعة وكنت منسقة للمستشفى الميداني في رابعة أنا وزوجي. وكنا حريصين على الدفاع عن حرية بلادنا ولم يكن لدينا أي استعداد للتخلي عن هذه التضحيات، ولم يكن لدينا أي استعداد للعودة مرة ثانية لعهد الدبابة وسيطرة القوة والصوت الأوحد.
شاركنا في الاعتصام كاملاً ما عدا آخر 3 أيام بعد عيد الفطر لأننا اضطررنا للعودة إلى بيتنا في الإسكندرية للعناية ببناتنا الثلاثة. لقد شاركت في اعتصام رابعة وكنت أعمل في المستشفى الميداني وأقوم بعلاج المصابين من أجل بناتي لأني كنت أربيهم على قيم الحرية والعدالة ولا أريد أن يعيشوا في مجتمع لا يروا فيه عدل أو حرية. وكانت أعمارهن في هذا الوقت 9 و7 و 5 سنوات. تركتهم في هذا السن في رعاية والدتي وشاركت في المظاهرات لكي أدافع عن حقهم وحتى لا تعود بلادنا مرة ثانية لما قبل عام 2011. لم أحضر فض اعتصام رابعة ولكن زملائي الأطباء الذين كانوا في المستشفى رووا لي أبشع ما يمكن أن يتخيله إنسان.
كيف أثر ذلك على عملك في تقديم خدمات الدعم النفسي للمحتجزين وأسرهم في الإسكندرية؟
بعد الانقلاب العسكري في 2013، وبعد ضغوط الاعتقالات والقسوة الشديدة والإجرام الذي قامت به الحكومة المصرية وقوات الجيش والشرطة. كان هناك عدد كبير من المواطنين المصريين والمحيطين بي مصابون بضغوط ما بعد الصدمة. وبما أن الطب النفسي هو مهنتي ولدي خبرة كبيرة فيه، بدأت بتوفير الدعم النفسي للمتضررين من الأحداث في مصر، وينقسم هذا الدعم إلى أمرين: الأول أنني كنت أستقبل في عيادتي الخاصة أي شخص يحتاج للمساعدة أو مصاب باكتئاب أو ضغوط ما بعد الصدمة بسبب ما تعرض له من ظروف قاسية وأقدم العلاج بشكل مجاني.
الأمر الثاني أنني كنت أقوم بتدريب ومساعدة أسر المعتقلين وأسر المصابين من خلال دورة تدريبية تسمى التعافي من أثر الصدمات ليقوموا بتوفير الدعم النفسي بأنفسهم. إن حجم الضرر النفسي الذي وقع على أفراد المجتمع المصري كان كبيراَ لدرجة أن أعداد الأطباء النفسيين الموجودين لا تستطيع وحدها التعامل مع هذا القدر الكبير من المصابين النفسيين.
ومما رأيت من حالات أستطيع أن أؤكد أن كثيرا من الشباب والفتيات تعرضوا لتعذيب غير ادمي على يد قوات الجيش والشرطة مما يترك في النفس ندوبا وجروحا نفسية صعبة جدا جدا. كنت أبذل كل جهدي وكنت اقابل أسر المعتقلين أحيانا أثناء زيارة زوجي في السجن.
كيف ومتى وأين تم اعتقالك؟
تم اعتقالي واتهامي في حادثة وقعت في يوم الحكم على زوجي أمام المحكمة العسكرية حيث كان الأهالي يقفون أمام المحكمة في انتظارالأحكام. فوجئنا بالأحكام القاسية من إعدام وسجن مؤبد أو السجن 15 عام أو 10 أعوام. ونتيجة لهذه الأحكام القاسية، أصيب العديد من الأهالي بصدمة قاسية وارتفعت الأصوات بالبكاء والصراخ والانهيار. وبدأ جنود الأمن بالاعتداء على النساء المنهارة فقط لأنهم يبكون ويصرخون خارج المحكمة التي كانت داخل قاعدة عسكرية.
عندما بدأ الجنود بالاعتداء على النساء والفتيات، حاولت الدفاع عنهن، فالتف حولي الكثير من الجنود وانهالوا علي بالضرب وكنت أتحدث مع الجنود بطريقة عقلانية وأسألهم عن سبب اعتدائهم علينا؟ ما الفعل الخطأ الذي ارتكبناه؟ ما هو الضرر الذي يقومون به؟ حاولت التحدث مع عقيد في الجيش حيث كان هو المسئول عن القوة الأمنية المسئولة عن تأمين المحكمة وكان يعرف أني طبيبة. سألته: لماذا تؤذون نساء غاضبات بسبب الحكم، اتركوهم ليبكوا قليلا ثم سيعودون إلى بيوتهن. وكانت النتيجة أنه تم الاعتداء علي بشكل عنيف جدا ثم عدنا إلى بيوتنا وتم اعتقال السائق الذي قام بإيصالي للمحكمة لأنه حاول تخليصي من الجنود عندما راهم يعتدون علي.
فوجئنا في اليوم التالي بأن السلطات قد قامت بتوثيق قضية ضدي وضد للسائق واتهمونا بأننا قمنا بالاعتداء على قاضي المحكمة التي لم يسمحوا لنا بدخولها أو حتى بالاقتراب منها حيث أن المحكمة تبعد عنا بضعة كيلومترات وتقع داخل القاعدة العسكرية. وكان دوري الوحيد الذي قمت به هو تهدئة أسر المعتقلين والأمهات والأطفال الذين يبكون بسبب الحكم على ذويهم بالإعدام والسجن.
عندما علمت بالقضية المرفوعة ضدي، كنت أستعد للسفر خارج مصر. اعتقلتني قوات الأمن الوطني في الشارع يوم 28 يناير 2018، مباشرة بعد استلام جواز سفري. لقد أصدروا مذكرة اعتقال بحقي. تم نقلي إلى قسم شرطة العامرية بالإسكندرية، وعرضي على النيابة. وتفاجأت بإحالة القضية إلى نيابة أمن الدولة العليا طوارئ. تم نقلي إلى سجن الأبعادية للنساء بمدينة دمنهور. ومكثت في السجن حوالي شهر وتم عرضي على جلسة النطق بالحكم، حيث برأني القاضي. واحتجزتني السلطات لمدة أسبوع آخر بين جهاز الأمن الوطني وأقسام الشرطة المختلفة في محاولات أخرى لمضايقتي. ثم أطلقوا سراحي في 6 مارس/آذار 2018.
مقارنة مع ظروف احتجاز الآخرين، كانت ظروفي سهلة وبسيطة. لقد عالجت معتقلين تعرضوا لأفظع أشكال التعذيب الجسدي والجنسي والنفسي اللاإنساني. ومع ذلك، تم احتجازي في زنزانة انفرادية بدون حمام لمدة يومين كاملين. تعرضت للترهيب والتهديد من قبل الأمن الوطني وضباط السجن. لقد عاملوني كشخص خطير للغاية، وفي بعض الأحيان كانوا يمنعون الناس من التحدث معي.
ثم تم نقلي إلى زنزانة تضم 32 معتقلاً آخرين، مساحتها ثلاثة في أربعة أمتار، وبها حمام واحد لا يتناسب مع احتياجات النساء. تم حبسي في جناح الجنايات الذي كان مليئًا بدخان السجائر الذي أصابني بالربو. خرجت من السجن مصابة بأنفلونزا قصبية حادة واضطررت إلى استخدام جهاز التنفس الصناعي ثلاث إلى خمس مرات يوميًا، وكنت أتناول الكثير من الأدوية حتى أتمكن من التنفس. خلال الأيام الأخيرة التي سبقت إطلاق سراحي، لم أتمكن من الحركة بسبب المرض الشديد. كنت أنام في مساحة صغيرة لا تكفي لشخص ليوم كامل، ولم يكن يسمح لي بالخروج في الشمس.
أما الانتهاكات التي شهدتها شخصيا داخل السجن، فقد رأيت بعض المعتقلين محبوسين في الحبس الانفرادي منذ أشهر، مثل الذي سجنت فيه لمدة يومين. وتم حبس إحدى المعتقلات السياسيات، وهي حامل، في زنزانة انفرادية دون حمام، حتى بعد ولادتها.
ظروف الاحتجاز في مصر غير إنسانية على الإطلاق. هناك معتقلات تعرضن لاعتداءات جنسية في مقر الأمن الوطني وأخبروني عن هذه الاعتداءات حتى أتمكن من مساعدتهن على التعافي. أماكن الاحتجاز في مصر لا تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المرأة. بعض الزنازين لا تحتوي على حمامات، وإذا كان هناك حمام فهو حفرة داخل الأرض. وفي سجن الأبعادية بدمنهور، لم تكن المياه متاحة إلا خمس مرات يوميا لمدة 15 دقيقة، بإجمالي لا يزيد عن ساعة ونصف، أما بقية اليوم فكان المعتقلون بدون ماء.
إذا كنا في المنفى القسري، ونكافح من أجل توفير حياة كريمة لأنفسنا ولأسرنا، فإن المصريين الذين بقوا في مصر لا يتمتعون حتى برفاهية العيش.
- نهى قاسم
بعد إطلاق سراحك، قررت مغادرة مصر. لماذا قررت المغادرة؟ وكيف غادرت مصر؟
بعد إطلاق سراحي في مارس/آذار 2018، اتفقت مع زوجي عندما زرته في السجن على مغادرة البلاد مع بناتي. لأول مرة في حياتنا، اتخذنا قرارًا بمغادرة مصر، وهو القرار المنطقي في مثل هذه الظروف. كان أصعب يوم لي هو اليوم الذي ودعت فيه بناتي وعائلتي على الرغم من عدم معرفتي بأي شكل وطريقة سأغادر. لعدة أشهر، لم أتمكن من استعادة جواز سفري وهاتفي المحمول وبطاقة الهوية وممتلكاتي الأخرى، التي تمت مصادرتها عندما تم اعتقالي.
عندما فشلت في استعادة جواز سفري بكل الوسائل القانونية، أدركت أن هذا ربما يشير إلى أنه سيتم اعتقالي مرة أخرى. تم إبلاغي بشكل غير مباشر أن السلطات قد تعيد اعتقالي وهذه المرة قد لا تتم تبرئتي. قررت أن الوقت قد حان لمغادرة مصر، وكانت تلك من أصعب اللحظات في حياتي. غادرت مصر في 28 يناير 2019. اضطررت إلى الفرار من البلاد عن طريق تهريبي عبر جنوب مصر إلى السودان. وصلت الخرطوم في الأول من فبراير، ثم غادرت إلى تركيا في مايو 2019. وتمكنت بناتي من اللحاق بي في نهاية يوليو 2019.
كان الطريق الذي خرجت به من مصر هو الطريق الطويل والصعب الذي يضطر العديد من المعارضين والناشطين إلى سلوكه، لأن النظام في مصر حريص على إبقاء كل المصريين مراقبين أو مسجونين. وإذا قلنا أن هناك الكثير من المصريين معتقلين داخل السجون، فإن بقية مصر معتقلة خارج السجون، لأن النظام لا يعتقل الناس فحسب، بل يمنعهم من السفر إلى الخارج، ويحول المطارات إلى أماكن احتجاز. قبل شهر من مغادرتي مصر في ديسمبر ويناير، كان النظام قد اعتقل عددًا كبيرًا من المصريين الذين كانوا يحاولون الفرار في المطار.
هل أنت قادرة حاليا على متابعة حالة زوجك في السجن أم أن الاتصال ممنوع؟
بعد خروجي من مصر انقطع الاتصال بيني وبين زوجي لعدم وجود وسيلة مسموحة أو قانونية للتواصل معه. ولا تسمح إدارة السجن بكتابة أو استلام رسائل من المعتقلين السياسيين. لا توجد وسيلة بالنسبة لنا للتواصل.
ما هي الصعوبات التي تواجهيها كأم وناشطة وطبيبة في المنفى وأم تضطر إلى تربية أطفالها دون والدهم؟، خاصة وأن زوجك لا يزال محتجزا في مصر؟
تبقى الحياة صعبة وأنا في بلد غريب. ومازلت أحاول تعلم اللغة التركية. أحاول أن أبقى على اتصال مع الناس في مصر، لكن الأمر مختلف عندما أربي بناتي دون دعم الأب أو الأسرة أو المجتمع.
تعاني بناتي من قلة العلاقات مع صديقات من المدرسة والمجتمع. الفترة الأولى بعد وصولهم إلى تركيا كانت صعبة للغاية على صعيد التأقلم، خاصة أننا شعرنا بأننا مضطرون لمغادرة مصر ولم نتركها طواعية. بالنسبة لي ولبناتي، الحياة في مصر أفضل، رغم أن هناك الكثير ممن يرون إسطنبول مدينة جميلة، وهذا صحيح، ولكننا لم نترك مصر طوعًا للزيارة أو الإقامة في إسطنبول. لقد غادرنا مصر إلى إسطنبول هرباً من أجل حريتنا وديننا وحفاظاً على أمننا.
لا توجد كلمات لوصف ما أشعر به حيال عدم رؤية زوجي طوال هذه السنوات. أتحدث مع بناتي عن والدهن طوال الوقت حتى لا ينسوه. نحن نشاهد مقاطع الفيديو باستمرار وننظر إلى صورنا حتى يبقوا والدهم على قيد الحياة بداخلهم. وأحرص على أن تلتقي بناتي بمعارف زوجي وأصدقائه لأخبرهم عن أبيهم وصفاته وحسناته. إذا لم تتح لبناتي اليوم فرصة للعيش مع والدهن، فلا ينبغي حرمانهن من ذكريات طفولتهن عن والدهن وذكريات أصدقائه عنه.
إذا كان بإمكانك تقديم رسالة إلى عائلات المعتقلين السياسيين في مصر، فماذا ستكون؟
رسالتي إليهم هي أن يقفوا بثبات ويتمسكوا بذكرى عائلاتهم. كونوا صوت عائلاتكم المعتقلة وعبّروا عنهم. إذا اعتقل الحاكم الظالم أهلك ليخفيهم عن الدنيا، حتى لا يسمح لهم بتحرير مصر، كن صوتهم وتذكرهم لإزعاج الظالم الذي سجنهم. ذكّر الآخرين بأن هناك أشخاصًا حلموا بالحرية لوطنهم وما زالوا مسجونين وينتظرون اللحظة التي تتحرر فيها مصر. ادعم أصدقاءك وأقاربك المحتجزين في مصر. يشعر أهالي المعتقلين بألم شديد لكن المعتقل داخل السجن موجود في زنزانة انفرادية ومحروم من كل سبل الحياة، وهو من يتعرض للتعذيب، فهو بحاجة إلى كل دعمنا. كن صوتهم وادعمهم في كل زيارة، وأخبرهم أنك معهم وتنتظرهم ولن ننساهم أبدًا، ولن نسمح للعالم أن ينساهم.
ماذا عن رسالة للنشطاء والسياسيين المنفيين؟
رسالتي الأولى لهم هي أنني أقدر الألم الذي تشعرون به وأفهم معنى المنفى القسري. أعلم أنه على الرغم من أننا نتمتع ببعض الأمان في البلدان التي نفينا إليها، إلا أننا لا نزال محرومين من حرية العودة إلى ديارنا. لا نشعر بالحرية الكاملة بسبب عدم قدرتنا على العودة إلى وطننا. ونعلم أن من ما زالوا داخل مصر فقدوا كل الحريات، حتى حرية التنفس. لا ينبغي لنا أن ننساهم. فإذا كنا في المنفى القسري، ونكافح من أجل توفير حياة كريمة لأنفسنا ولأسرنا، فإن المصريين الذين بقوا في مصر لا يتمتعون حتى برفاهية العيش. كن مسؤولا إذا نجحت في الخروج من مصر، فهناك آخرون لم ينجحوا. تأكد من عدم إضاعة الطاقة على أشياء عديمة الفائدة. استخدموا قوتكم للعمل من أجل عودتنا إلى بلدنا وتحرير الملايين في مصر. واعلموا أن حياة المنفيين ليست سهلة أو بسيطة وأنهم يعانون. ورغم كل هذه المعاناة لا تزال لديكم الحرية الجزئية لتحرير مصر. لا تضيعوا الوقت. لا تدعوا الصراع المستمر يجعلكم تنسون الهدف الرئيسي لخروجنا، وهو حرية مصر.
ماذا تقولين للمجتمع الدولي؟ ماذا تعتقدين أن عليهم أن يفعلوا؟
رسالتي إلى المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية هي أن ما يحدث في مصر هو جريمة ضد حرية وإنسانية كل المصريين، ليس داخل السجون فحسب، بل في جميع أنحاء البلاد حيث تنتهك حقوق كل مصري. أنتم تعرفون كل هذا وقد شاهدتم مقاطع الفيديو والشهادات. ليس لديكم أي عذر.