ماجد مندور هو محلل سياسي مصري يكتب بانتظام في منصات إعلامية مثل (Middle East Eye) و (OpenDemocracy) و (the Arab Digest) ومجلة صدى، وهي مجلة تابعة لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. تخرج من جامعة كامبريدج، وهو مؤلف كتاب "مصر في عهد السيسي: أمة على الحافة".
ملاحظة المحرر: ما يلي هو مقتطف من كتاب "مصر في عهد السيسي: أمة على الحافة"، الذي نشرته مؤخرًا مؤسسة (I.B. Tauris).
شهد صيف عام 2013 واحدة من أسوأ حالات العنف التي تقودها الدولة في التاريخ المصري. كان هذا العنف بمثابة إيذان بفترة من القمع الشديد الذي لم يهدأ بعد مرور 11 عامًا تقريبًا. إنّ المجازر التي وقعت في ذلك الصيف لم تقضي فحسب على أي أمل في استمرار التجربة الديمقراطية الوجيزة في مصر في أعقاب الانتفاضة الشعبية في عام 2011، بل أرست أيضًا الأساس لاستقطاب اجتماعي عميق، وهو أمر ضروري للمؤسسة العسكرية لتعزيز قبضتها على السلطة. في الواقع، لولا العنف الجماعي الذي تمارسه الدولة، لكانت قدرة المؤسسة العسكرية على تهميش القوى السياسية المدنية بشكل كامل في انقلاب يوليو/تموز 2013 الذي أوصل عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، من التيارات الإسلامية إلى التيارات الليبرالية واليسارية، صعبة للغاية. ومع ذلك، فإن مفتاح نجاح الجيش يكمن في التماس الدعم الشعبي للقمع الجماعي الذي أطلقه الجيش—في البداية، ضد أنصار الرئيس الإسلامي المخلوع محمد مرسي، ثم امتد لاحقًا ليشمل المعارضة العلمانية أيضًا وكذلك المواطنين العاديين الذين وقعوا في مخالبها المتعاظمة.
إنّ قدرة الجيش على التماس الدعم الشعبي لقمعه تنبع من ثلاثة عوامل متشابكة. الأول هو قدرة نظام السيسي على إحياء شكل الناصرية القمعي والمحافظ بقوة، خاليًا من التركيز الناصري الكلاسيكي على العدالة الاجتماعية الذي ميّز حكم الرئيس جمال عبد الناصر. لقد أحيا هذا الشكل الجديد من الناصرية فكرة راسخة بعمق في النفس العامة المصرية، ألا وهي الوحدة العضوية للجماهير والانسجام الطبيعي بينها. وقد سمح ذلك للنظام الجديد بتأطير المعارضة على أنها أعمال خيانة، تغذيها قوى أجنبية، بهدف تعطيل هذا الانسجام الطبيعي، ما سمح للنظام بحشد الدعم الشعبي لقمعه.
ويرتبط العاملان الثاني والثالث وراء قدرة المؤسسة العسكرية على تعزيز الدعم الشعبي لقمعها ارتباطًا وثيقًا. فخلال العام الذي قضته في السلطة بعد الانتخابات الديمقراطية التاريخية في عام 2012، أدت محاولات جماعة الإخوان المسلمين لاحتكار السلطة—وما تردد عن مغازلة الأجهزة الأمنية—إلى تنفير القوى المدنية الأخرى، باستثناء بعض الجماعات الإسلامية. وقد اقترن ذلك بخوف القوى العلمانية، وبين شرائح واسعة من الطبقات الحضرية، من هيمنة الإخوان المسلمين وتأسيس الحكم الديني، ما سمح للجيش باستمالة عدد كبير من الشخصيات العلمانية بسهولة، حيث كان دعمهم ضروريًا للنجاح المبكر للانقلاب.
يحتاج نظام السيسي إلى حالة من الأزمة الدائمة من أجل البقاء في السلطة. وإذا تم حل الأزمة، فإن الجاذبية الأيديولوجية للنظام تتلاشى.
- ماجد مندور
وفي عشية الاحتجاجات الحاشدة في 30 يونيو/حزيران 2013 التي عجّلت بالانقلاب، كان الجيش قادرًا على استغلال الأزمة السياسية المتفاقمة بالفعل، والتي كان من الممكن تجنبها لو أن الإخوان فهموا حجم الكارثة الوشيكة وأنه كان من الضروري وجود حد أدنى من التوافق مع القوى السياسية الأخرى لتفادي خطر الانقلاب العسكري. في النهاية، سمح عناد جماعة الإخوان المسلمين وسذاجة المعارضة العلمانية، فضلًا عن نزعتها الاستبدادية الصريحة، للجيش بتهميش كلا الفصيلين، من خلال موجة عارمة من القمع مدعومة شعبيًا.
لم تمهد الموجة الأولى من هذا القمع، والدعم الشعبي الذي استندت إليه، الطريق لرئاسة السيسي فحسب، بل سمحت أيضًا للجيش بالسيطرة الكاملة على أجهزة الدولة واستخدام تفوقه المكتشف حديثًا لإعادة تشكيل الدولة والاقتصاد وفق تصوره الخاص. من حيث الجوهر، أرست هذه الموجة الأساس لثورة السيسي السلبية، التي نُفِّذت بمستويات كبيرة من العنف. وكما ذكر والتر أرمبرست، فإن "العنف الذي شهده عام 2013… أصبح جزءًا من النظام السياسي الجديد. ولا يمكن للنظام أن يوجد من دونه".
ويعد تحليل أحداث النصف الثاني من عام 2013 أمرًا بالغ الأهمية لفهم أساس النظام وكيف أصبح الجيش هو القوة المهيمنة في الأرض. ويعد مثل هذا التحليل أيضًا ذا أهمية حاسمة لفهم المسار المستقبلي للنظام، فضلًا عن احتمالات التحول الديمقراطي في البلاد. ولا بد من إعادة النظر في الجراح الاجتماعية العميقة التي خلفها ذلك الصيف من أجل تحقيق أي احتمال للتعايش السلمي.
إنّ الإرث الإيديولوجي السام الذي خلفته هذه الأحداث هو العاقبة الأكثر خطورة، وربما الأكثر ديمومة. تطلبت أعمال العنف الجماعي هذه التي قامت بها الدولة دعم قطاعات كبيرة من السكان، الأمر الذي استلزم تلقين إيديولوجية شديدة الاستبداد والشوفينية وذات طابع فاشي. هذه عقبة كبيرة يجب التغلب عليها. فمن الصعب جدًا القول بأن الانقلاب العسكري في عام 2013، والقمع الذي أعقبه، لم يحظ بشعبية كبيرة بين شرائح كبيرة من المجتمع المصري. في الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بشكل معقول بأن أعمال العنف هذه قد تم تنفيذها بمستوى معين من المشاركة الشعبية، وهي حقيقة يحب السيسي تذكير جمهوره بها كلما تعرض النظام للتهديد.
هذه المشاركة الشعبية، والتي سأسميها "القمع المجتمعي"، لا تشير فقط إلى أعمال القمع الجسدي المباشرة، ولكن أيضًا إلى النبذ الاجتماعي لأعضاء المعارضة، الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء، فضلًا عن الدعم الحماسي لقمع النظام. وكان لهذه العملية، التي غذتها في المقام الأول دعاية النظام، عدد من العواقب المهمة. أولًا، سمح للنظام ليس فقط بتعزيز قاعدته، بل أيضًا بخلق رابطة نفسية قوية مع شرائح واسعة من السكان، الذين رأوا أنفسهم شركاء في حملة النظام لتخليص البلاد من الخونة ولحماية الدولة من الانهيار الوشيك والحفاظ على القيم التقليدية. ومع ذلك، فإن الخوف من الفوضى الاجتماعية لا ينبع فقط من الخوف من الاضطرابات السياسية أو سيطرة الإسلاميين، ولكن أيضًا من التحدي الذي تواجهه القيم المحافظة والمغايرية التي كانت سائدة في المجتمع المصري لعقود من الزمن.
وكما زعم أرمبرست، باستخدام مفهوم "الحدية" الذي طوره عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تورنر، خلقت الاحتجاجات الجماهيرية في عام 2011 حالة انتقالية بين دولتين اجتماعيتين معياريتين، حيث بدا كل شيء ممكنًا. وقد مكّن هذا الوضع من التشكيك في الأعراف الاجتماعية القائمة بطريقة تسببت في قلق عميق لدى جمهور كبير من المحافظين، الذين اعتبروا الجيش وسيلة لإنهاء حالة التدفق الاجتماعي السائدة. وقد أثارت هذه "الأزمة الحدية" رد فعل شرس من قبل النظام وقاعدة دعمه، وكانت إحدى ساحات الصراع الرئيسية بين النظام ومختلف قطاعات المعارضة. أما النتيجة الثانية، والتي لا تقل أهمية، عن "القمع المجتمعي" فهي أن المشاركة في قمع النظام تتطلب الإيمان بعدد من نظريات المؤامرة الخيالية، التي تكاد تكون سخيفة. كان هذا الاعتقاد ضروريًا للنظام ليس فقط لتلقين أتباعه نسخته من الناصرية، بل أيضًا لغرس عقلية استبدادية لا تقبل الجدل بين قاعدته، وهو مثال واقعي على "التفكير المزدوج" الأورويلي، حيث يتم اتخاذ دعاية النظام كحقيقة مطلقة، حتى لو كانت متناقضة بشكل صارخ مع الحقائق على الأرض.
ولم يقتصر الأمر على قيام السيسي ونظامه باحتجاز شريحة كبيرة من السكان كرهائن، بل أخذوا أنفسهم ومؤيديهم معهم عن غير قصد.
- ماجد مندور
إنّ لحظة هيمنة النظام ترتكز على حالة من الاستقطاب والعنف الجماعي الذي تمارسه الدولة. وقد أثبت هذا البناء الإيديولوجي أنه جذاب للغاية، وأكثر ديمومة مما كان المرء ليتوقعه في صيف عام 2013. ويكمن سر هذه الجاذبية في قدرة النظام على إدامة حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي، فضلًا عن قدرته على زراعة الجذور التاريخية العميقة لنسخة النظام المجددة من الناصرية. إنّ قدرة النظام على استمالة قاعدته تعتمد على العنف الجماعي الذي تمارسه الدولة، والذي يجب أن يستمر لتبرير الحكم العسكري المباشر.
بعبارات أبسط، يحتاج النظام إلى أعداء داخليين دائمين وخونة وإرهابيين ومنحرفين اجتماعيين لقمعهم حتى يستمر خطابه في جذب مؤيديه. وهذا له عدد من العواقب المقصودة وغير المقصودة التي سيكون لها آثار طويلة المدى على آفاق التحول الديمقراطي في مصر. وأوضح نتيجة مقصودة هي تلقين شريحة كبيرة من المجتمع روح النظام المتمثلة في الوحدة الوطنية والتشابه وتصور الهوية الوطنية المصرية على أنها أثيرية. ويعمل هذا التلقين كحاجز قوي أمام تطور الروح الديمقراطية والمدنية، وهو أمر ضروري لازدهار الممارسة الديمقراطية. إنّ التلقين ضروري ليس فقط لبقاء الجيش في السلطة، بل لتبرير احتكار الجيش للسلطة السياسية وإعادة هيكلة الدولة والاقتصاد بطريقة لم نشهدها منذ عام 1952، وكل ذلك باسم نسخة "سيسية" من الناصرية. وفي الواقع، فقد وفرت القاعدة الأيديولوجية لثورة السيسي السلبية ولحظة هيمنتها.
ومع ذلك، فإن العواقب المقصودة، مصحوبة أيضًا بتداعيات غير مقصودة، ما سيقيد بشدة خيارات النظام السياساتية. على سبيل المثال، سوف يعمل البناء الإيديولوجي للنظام، والذي يعتمد بشكل كبير على تشويه سمعة المعارضة والإصرار على ضرورة القمع، بمثابة قيود إيديولوجية تخنق الإصلاح الذي تقوده النخبة. وبعبارة أخرى، يحتاج النظام إلى حالة من الأزمة الدائمة من أجل البقاء في السلطة. وإذا تم حل الأزمة، فإن الجاذبية الأيديولوجية للنظام تتلاشى. وهذا يترك النظام أمام خيارات سياساتية محدودة، إلى جانب القمع، في التعامل مع المعارضة. ومن ثم، فإن احتمال المصالحة الوطنية أو تخفيف القمع يصبح غير مرجح، لأن القمع أصبح الآن ضرورة أيديولوجية لا يستطيع النظام الهروب منها. وهذا يترك النظام غير مجهز للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية، لأنه بدلًا من استيعاب الاحتجاجات الاجتماعية من خلال التسوية، فمن المرجح أن يدعو إلى القمع الجماعي باعتباره الرد السياسي المفضل لديه، ما يحد بشدة من قدرة النظام على امتصاص الغضب الشعبي من خلال التنازلات. وإذا فعل خلاف ذلك، فسيتعرض النظام لضغوط هائلة، ليس فقط من قاعدته الشعبية ولكن أيضًا من داخل الأجهزة الأمنية، التي تم تلقينها بعمق عبر هذه الأيديولوجية.
ولم يقتصر الأمر على قيام السيسي ونظامه باحتجاز شريحة كبيرة من السكان كرهائن، بل أخذوا أنفسهم ومؤيديهم معهم عن غير قصد.