أسامة صفار هو صحافي مصري مقيم في كندا.
English
أحد أشهر الأعمال الدرامية التلفزيونية التي تم بثها في مصر مؤخرًا خلال شهر رمضان، كان مبنيا على كذبة. فالموسم الثاني من مسلسل "الاختيار" يعيد تدوير الدعاية الحكومية حول جماعة الإخوان المسلمين وتحديدًا المجزرة التي راح ضحيتها ما يقرب من 1,000 متظاهر في القاهرة عام 2013، وهي عملية قتل جماعي "على نطاق غير مسبوق في مصر" بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش.
المسلسل يعد دليلاً على مدى سيطرة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي على وسائل الإعلام المصرية، بما في ذلك صناعة الترفيه وتحويل المسلسلات الدرامية والتلفزيونية الأخرى إلى أبواق حكومية.
كان الهدف الواضح من مسلسل "الاختيار"، الذي يعيد كتابة تاريخ الأحداث البشعة والتي تم تغطيتها على نطاق واسع في ميدان رابعة العدوية في القاهرة وميدان النهضة، هو تبرئة السيسي ونظامه من تلك المذابح التي أعقبت الانقلاب الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيًا في مصر، محمد مرسي.
يقوم المسلسل بالتستر على تورط القوات المسلحة المصرية في عمليات القتل وتقليل دور الشرطة المصرية، ويُظهر أن عملية تفريق الاعتصامات تمت بصورة لطيفة ومتسامحة من قبل قوات الأمن الشجاعة، مع إلقاء اللوم في جميع أعمال العنف على المتظاهرين المسلحين الذين تم تصويرهم على أنهم إرهابيون ومتطرفون.
أكد المنتجون لمسلسل "الاختيار" بصورة متعمدة كذبة النظام المتمثلة في الاحتجاج المسلح على نطاق واسع، على الرغم من أن السلطات المصرية أنكرت ذلك في صيف 2013، حيث قال وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم في مؤتمر صحفي يوم 14 أغسطس/آب، أن قوات الأمن صادرت 15 قطعة سلاح من الاعتصام في ميدان رابعة العدوية—والتي، كما ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش، "من شأنها أن تشير إلى أن قلة من المتظاهرين كانوا مسلحين ويدعم أدلة كثيرة أخرى… في أن الشرطة قتلت مئات المتظاهرين العزّل".
وفي خطاب ألقاه بعد أيام من المجزرة، أقر السيسي نفسه، وزير الدفاع آنذاك، بواقع الاحتجاجات السلمية على نطاق واسع، بينما كان لا يزال يبرر القتل. فقد قال: "لا أقول إن الجميع كانوا يطلقون النار، لكن يكفي أن يطلق 20 أو 30 أو 50 شخصًا الرصاص الحي في اعتصام بهذا الحجم".
تم إنتاج مسلسل "الاختيار" من قبل شركة سينرجي التابعة لشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهي شركة إعلامية أفادت عدة تقارير أن الدولة المصرية أسستها في عام 2017. اثنان من أعضاء مجلس إدارة شركة المتحدة للخدمات الإعلامية مرتبطان بجهاز المخابرات العامة المصرية.
وبحسب ما ذكرت وكالة رويترز في عام 2019، فإن هذه الشركة "سيطرت على وسائل الإعلام الإخبارية وشركات الإنتاج التلفزيوني والقنوات—في المجمل 14 قناة على الأقل حتى الآن—ما يمنحها تأثيرًا لا مثيل له على جدول البث التلفزيوني. وقامت مجموعة شركة المتحدة بفرض قواعد الرقابة الحكومية".
ليس من المستغرب إذن أن يفرض مسلسل "الاختيار" رواية كاذبة عن مذبحة رابعة، ويصور الشرطة المصرية وقوات الأمن على أنها شخصيات بطولية وملائكية. وكما قال مخرج هذا المسلسل المصري بيتر ميمي للصحافة في وقت سابق من هذا العام، "المسلسل مشروع وطني وقومي لتوعية الأجيال القادمة".
روّج ميمي للقطات أرشيفية من احتجاجات عام 2013 حيث تم تضمينها في المسلسل، لكن تخلل تلك المقاطع القصيرة مشاهد خيالية، ما يزيد من حجم دعاية النظام.
من جانبها، أشارت عبير النجار، الأستاذة المشاركة في دراسات الإعلام والصحافة في الجامعة الأمريكية في الشارقة، في انتقادها لمسلسل "الاختيار" إلى: "أن الجمع بين المقاطع القصيرة والصور المختارة بعناية من الأحداث الفعلية مع تلك التي تم إنتاجها خصيصًا لهذا المسلسل التلفزيوني—بالإضافة إلى استخدام الأسماء الحقيقية لبعض الشخصيات، والمقابلات مع الجنود وأفراد عائلات أفراد الأمن المصري—يمكن أن يؤدي إلى إخفاء الحقيقة، إن لم يكن التلاعب بها، وطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال".
وفي حين يقدم الموسم الثاني للمسلسل تاريخًا لمذبحة رابعة يحظى بموافقة النظام، ركّز الموسم الأول من المسلسل على حملة الجيش المصري لمكافحة الإرهاب في سيناء—من وجهة نظر الجيش بالطبع.
كان السيسي من أشد المعجبين بذلك المسلسل. وأشاد علنًا بالمسلسل وطاقمه العام الماضي، قائلًا إنهم "أعطوا صورة رائعة لواقع عشناه ونعيشه" ودعا إلى المزيد من تلك العروض حول "الأعمال البطولية للجيش والشرطة".
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي دعا فيها السيسي صناعة الترفيه المصرية إلى اتباع رواية النظام. ففي عام 2015، أثناء إلقاء كلمة له أمام مجموعة من ضباط الشرطة خلال احتفال رسمي بيوم الشرطة، تحدث السيسي عن أفكاره حول التلفزيون والسينما المصرية.
وكان الممثلان المصريان المشهوران يسرا وأحمد السقا من بين الحضور بأكاديمية الشرطة بالقاهرة، حيث خاطبهما السيسي مباشرة، أمام كل أفراد الشرطة الحاضرين.
قال لهم أن مسؤوليتهم هي "تقديم أعمال تلهم الناس وتمنحهم الأمل، وتُبرز القيم والأخلاق"، وأنه حتى كان "يتوقع هذا في المسلسلات التلفزيونية في رمضان المقبل". وأضاف السيسي بصورة توحي بالتحذير "والله حتتحاسبوا". فيما وقف السقا وسط الجمهور ووعد السيسي بأنه لن يخيب ظنه.
منذ ذلك الحين، زادت الرقابة على وسائل الإعلام وتم تلبية مطالب السيسي من خلال الأعمال الدرامية التلفزيونية مثل مسلسل "الاختيار" وغيره الكثير.
من أوائل الأعمال الدرامية الدعائية التي تم بثها على التلفزيون المصري مسلسل "نسر الصعيد" عام 2018، والذي قدّم صورة رجل شرطة تكتمل لديه معاني الإنسانية والرشد والعدالة والإيثار ويواجه تاجر مخدرات.
تم اختيار المسلسل لاحقًا من قبل نيتفلكس. كما خدم ممثلون مصريون بارزون النظام من خلال إنتاج أفلام ومسلسلات دعائية خالصة. في عام 2018، لعب السقا دور السيسي في فيلم تدور أحداثه بين ثورة 2011 وانقلاب 2013 الذي يمجد حاكم مصر ولكنه لم يعرض بعد.
سرعان ما برزت شركة سينرجي باعتبارها أكثر شركة من ناحية الإنتاج، حيث تقوم بإنتاج الأعمال الدرامية المناسبة للحكومة في شهر رمضان، عندما يرتفع عدد مشاهدي التلفزيون في مصر وفي جميع أنحاء العالم العربي.
وأصبحت شركة إعلام المصريين، جزءا من المتحدة للاعلام للدولة بما تملكه من قنوات. لكن شركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التي تسيطر على شركة سينرجي، هي التي تحتكر معظم الإنتاج الدرامي المصري. وتمتلك المتحدة للخدمات الإعلامية الآن النسبة الأكبر من القنوات الفضائية الخاصة والقنوات والصحف التي تديرها الدولة في مصر، والتي تم تأميم معظمها بعد ثورة 1952.
في غضون ذلك، أنشأ نظام السيسي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذي يضم الهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام. ووفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود، فإنها جميعها "تتصرف كجهات منظّمة لوسائل الإعلام بحكم الأمر الواقع".
وقام المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على وجه الخصوص بمراقبة محتوى الدراما التلفزيونية وغيرها من البرامج، بالإضافة إلى وسائل الإعلام المطبوعة، وحدّد المعايير الأخلاقية العامة لما يجب عرضه وما لا يجب عرضه على الشاشة.
إنّ السيطرة على صناعة الإعلام والترفيه في مصر هي استراتيجية متعمدة للنظام، تقوم على الاقتناع بأنه بالإضافة إلى القوة العسكرية والإكراه، يجب على السلطات أيضًا التحكم في ما يقرأه الناس ويسمعونه ويشاهدونه على شاشاتهم.
السيطرة على الإنتاج الإعلامي، بالطبع، ليس بالأمر الجديد في مصر. بالعودة إلى عهد الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر بعد عام 1952، كان للحكومة دور مباشر في صناعة السينما المصرية التي ازدهرت في الخمسينيات والستينيات.
وتم تأميمها في عام 1966 وأصبحت تخضع للرقابة بشكل متزايد.لكن حتى في ذلك الوقت، سقط عدد قليل من الأفلام إلى مستوى الدعاية العلنية مثلما يحدث في الإنتاج التلفزيوني في عهد السيسي اليوم.
نظرًا لتاريخ سيطرة الحكومة على وسائل الإعلام، لم يكن نظام السيسي بحاجة إلى أكثر من ممارسة سلطة أكثر إحكامًا على المؤسسات القائمة، بينما كان يُرهب الصحف ووسائل الإعلام الإخبارية المستقلة القليلة التي بالكاد توجد في مصر. كما قام النظام بحجب مئات المواقع الإلكترونية في السنوات الأخيرة التي يرى أنها تتعارض مع رؤيته لمصر "الوطنية".
يعد هذا الوضع أكثر تقييدًا بكثير من النظام في عهد حسني مبارك، الذي كان نظامه يمارس سيطرة واسعة على وسائل الإعلام، لكنه أتاح بعض المساحة للبرامج الدرامية التلفزيونية والبرامج الحوارية للعمل بحرية أكبر. كان شخص مبارك هو الخط الأحمر الرئيسي. كان على وسائل الإعلام بكافة أنواعها أن تتجنب انتقاده ثم انتقاد ابنه جمال لاحقًا—حتى وإن كانت العديد من وسائل الإعلام المعارضة غالبًا ما تختبر أو تتجاوز هذا الخط الأحمر في ذلك الوقت.
في عهد مبارك، كانت الدراما التلفزيونية ملتزمة بشكل عام بدورها كوسيلة ترفيه، ولم تكن مكلّفة بتوثيق النسخة الحكومية من التاريخ كما يحددها نظام السيسي، أو تقديم دروس وطنية توضح "المبادئ والأخلاق" التي يجب الالتزام بها، مثلما يفعل السيسي. حتى أن القنوات التلفزيونية الخاصة خلال السنوات الأخيرة من عهد مبارك تمتعت بقدر من الحرية النسبية في انتقاد بعض وزراء الحكومة.
لم تعكس تلك البيئة الإعلامية في عهد مبارك إيمانًا بحرية الصحافة أو حرية التعبير، بل عكست نظامًا متصلبًا يقوده رجل عجوز لم يعد لديه قدرة التحكم في الأمور. نتج عن ذلك وجود مراكز قوة متنافسة داخل النظام أكدت وجودها في منصات إعلامية متنوعة وغالبًا ما تكون متنافسة.
يحاول السيسي تجنب تكرار هذا الموقف. فمن خلال تعزيز سيطرة النظام على جميع جوانب وسائل الإعلام—والذي يكون أكثر وضوحًا في الوقت الحالي في صناعة الترفيه في مصر—حولت السلطات الدراما التلفزيونية إلى ذراع آخر للديكتاتورية.
وأصبح الممثلون والكتّاب وغيرهم من الفنانين الذين لا يتفقون مع هذا السياق في المنزل بدون عمل أو في ظلام الزنزانة أو يعيشون في المنفى. لكن على الرغم من أن النظام يحاول يائسًا إعادة كتابة التاريخ الدموي الحديث لمصر، إلا أن حقيقة ما حدث بالفعل في ميدان رابعة العدوية، وكل مظاهر الرعب الأخرى منذ انقلاب السيسي، لا يمكن نسيانها.