سألني صديق تونسي باستغراب بحكم أنه متتبع للشأن المغربي "ماذا حدث في السنوات الأخيرة للنظام المغربي لتحدث هذه الردة الحقوقية، النظام في المغرب ليس هشا أو فاقدا للمشروعية ليحارب كل صوت مستقل؟"، فأجبته أننا بدورنا لا نعرف هوية من يحرك ويصفي النخبة المعارضة المغردة خارج السرب، هي "بنية سرية" أعضاؤها غير معروفين للعموم، ليس لديها صفة رسمية لكنها دولة موازية داخل الدولة وفقا للوصف الذي أطلقه عليها المؤرخ المعطي منجب.
برز عمل هذه البنية بشكل أكبر مع قضية الصحفي توفيق بوعشرين مؤسس يومية "أخبار اليوم" المحكوم ب15 سنة سجنا نافذا، حيث أدين إعلاميا حتى قبل أن تنطلق محاكمته، من طرف مواقع وجرائد خطها التحريري يتمحور حول التشهير بالصحفيين المستقلين والمعارضين، إحداها يسيرها عامل سابق في وزارة الداخلية، وأخرى يملكها أحد مرافقي الملك في جولاته الإفريقية.
وحينما قررت عفاف برناني الوقوف بشجاعة وقول إنه لم يتم الاعتداء عليها من طرف بوعشرين وأن الجهة التي أرادت أن تجعل منها خشبا مسندة لصلبه هي نفسها من زورت لها المحضر لإقحامها زورا في ملف لا علاقة لها به، وجدت نفسها تواجه حكما بالسجن لستة أشهر نافذة في محاكمة ماراتونية لم يرافع فيها دفاعها ولم يستمع لها خلالها.
ستزداد هذه البنية تجبرا بعدما أصبحت تعلن من خلال ذات المواقع التشهيرية التهم التي سيتابع بها الصحافيون والمعارضون بل وتقوم بتعيين تاريخ اعتقالهم أسابيع قبل تنفيذه، وهو ما حدث مع الصحفي سليمان الريسوني رئيس تحرير يومية "أخبار اليوم"، إذ نشر أحد المواقع أنه سيعتقل قبل يومين من عيد الأضحى وهو ما كان.
ولأنهم يعتبرون نفسهم دولة داخل الدولة، تم ضرب القانون والمسطرة الجنائية عرض الحائط، واعتقل الريسوني دون أن يتوصل باستدعاء للاستماع إليه من طرف الضابطة القضائية، بما أنه ليس هناك حالة التلبس أو أدلة تدينه، والأنكى من ذلك، قام نفس الموقع الذي هدده بالاعتقال بتصوير لحظة اعتقاله من أمام منزله.
نفس الأمر سيحدث مع الصحافي عمر الراضي، إذ نشر نفس الموقع تاريخ اعتقاله قبل أن يحصل ذلك بأسبوع. متاعب عمر بدأت منذ نشر منظمة العفو الدولية تقريرا، تقول فيه إن الدولة المغربية تتجسس على الراضي باستعمال برنامج بيغاسوس الاسرائيلي، حينها ثارت ثائرة السلطات، ووجهت له تهمة التجسس لصالح دول ومنظمات أجنبية وحقق معه لأزيد من 100 ساعة خلال ثلاثة أسابيع، ولأن الملف فارغ من البداية وليس فيه ما يدين الصحافي الشاب، لفقت له التهمة الأكثر استعمالا في المغرب ضد الصحفيين في السنوات الأخيرة وهي : "الاغتصاب".
في ملف "الاغتصاب" كانت ثغرة لم تحسب حسابها السلطات، وهي شهادة الصحافي عماد استيتو التي تبرئ الراضي من التهمة وتقدم رواية مخالفة، لكن بقدرة قادر ودون أن تتقدم "المدعية" بشكاية ضد استيتو تابعه قاضي التحقيق بناء على ملتمس من النيابة العامة ب"المشاركة في الاغتصاب"، وبهذا القرار ينتهي آخر أمل لعمر الراضي لإثبات براءته بعدما تحول الشاهد الوحيد إلى متهم.
نسج التهم لتصفية الصحافيين المستقلين والمعارضين لم يتوقف عند هذه الملفات، فبعد شهور من التشهير والوعيد، وعشرات جلسات التحقيق حول تهمة "غسيل الأموال"، يعتقل المؤرخ معطي منجب من داخل مطعم في العاصمة بالرباط بطريقة هوليودية وخارج القانون، إذ لم يكن موضوع أي أمر بالإحضار، فملفه لم يكن قد أحيل بعد على قاضي التحقيق الذي يعتبر الوحيد المخول بإصدار الأمر بالإحضار.
وبعد أسابيع من اعتقاله، أدين بسنة نافذة في ملف "المس بأمن الدولة" الذي يتابع فيه منذ أزيد من خمس سنوات، وأجلت جلساته لنحو 20 مرة من دون أن تنعقد، هذا الحكم الذي صدر دون إخبار محاميه بموعد الجلسة أو إحضاره، اعتبرته لجنة التضامن مع منجب أنه " سياسي يهدف بالأساس إلى الانتقام منه وتبرير استمرار اعتقاله التعسفّي، بدعوى أنه محكوم على ذمة قضية أخرى".
المثير في قضية منجب أنه وبعد بيان لجنة التضامن الذي اعتبر أن الحكم سياسي، أصدر المجلس الأعلى للقضاء بلاغا يعبر فيه عن رفضه لما وصفه "بالمغالطات والمحاولات الرامية إلى تسييس قضية مرتبطة بالحق العام والمس بالاحترام الواجب للقضاء"، في حين أن المجلس سلطة إدارية ولا يحق له إبداء رأيه في قضايا رائجة أمام المحاكم، لأن المشرع الدستوري اعتبر ذلك من باب "التدخل والتأثير على القضاء".
مع الوقت وقضية تلو الأخرى أصبح عمل هذه البنية السرية أكثر تنظيما وتماسكا، حيث تغولت خلال السنوات الأخيرة ولم يعد يخيفها أحد فأصبحت تعلن عن نفسها بوجه مكشوف، وكلما صدح صوت ينتقد أو يعارض، تطلق سهامها لتصفيته وقتله رمزيا وتشويه سمعته قبل أن تجرجره أمام أنظار العالم إلى السجن تارة بمبرر حماية حقوق النساء وتارة لحماية البنية المحافظة للمجتمع كما حدث في قضيتي حينما تابعوني بتهمة "الإجهاض"، وتارة أخرى بدافع الدفاع عن المثلية التي يجرمها القانون المغربي، ومرة بدعوى الحرص على أموال المنظمات الدولية التي لا تتردد هذه البنية في مهاجمتها كلما سنحت لها الفرصة.
In Pictures
Photo Credits: Lorem ipsum dolor sit amet, ea reque denique percipit nam. Eos nemore dissentiet te, nam affert albucius cu, mei ludus ornatus luptatum at. Usu no diam enim labitur, modus clita ut nec. Et vivendo officiis vis, an petentium forensibus interpretaris his, mea molestie sadipscing vituperatoribus ei. Solum velit vix cu.