في حين أن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تعقدان جلساتهما في لاهاي، فإنهما تتحملان مسؤوليات مختلفة للغاية داخل النظام القانوني الدولي. إنّ العديد من القضايا الكبرى التي تتعلق بحرب إسرائيل في غزة تختبر نطاق تلك المسؤوليات في مواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المحتملة. تبت محكمة العدل الدولية، أو التي تُسمى "المحكمة العالمية"، في النزاعات الخلافية بين الدول وتقدم آراء استشارية بشأن الأسئلة القانونية التي تطرحها المنظمات الحكومية الدولية. تلاحق المحكمة الجنائية الدولية الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجريمة العدوان.
إنّ أطول قضية تتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني هي التحقيق الجنائي في الوضع في فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية. ففي مارس/آذار 2021، فتحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك، فاتو بنسودا، تحقيقًا في جرائم مزعومة ارتُكبت على الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى يد فلسطينيين منذ يونيو/حزيران 2014. ولكن خليفة بنسودا، كريم خان، انتظر حتى الشهر الماضي، في 20 مايو/أيار، ليعلن أنه يسعى إلى إصدار أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيليين وحماس. وتقوم غرفة ما قبل المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية الآن بتقييم ما إذا كانت هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إلى جانب يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية، ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية منذ الهجوم الذي قادته حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول وحرب إسرائيل الانتقامية اللاحقة في غزة.
وفي طلبه إصدار أوامر اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، يزعم خان أن إسرائيل تستخدم التجويع كأسلوب من أساليب الحرب. وعلى وجه التحديد:"حرمت إسرائيل عمدًا وبشكل منهجي السكان المدنيين في جميع أنحاء غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان" لغرض معاقبة جميع الفلسطينيين في قطاع غزة بشكل جماعي. كما يُتهم نتنياهو وغالانت بالمسؤولية عن الهجمات المتعمدة ضد المدنيين والقتل والإبادة والاضطهاد، فضلًا عن جرائم حرب أخرى وجرائم ضد الإنسانية.
إنّ العديد من القضايا الكبرى التي تتعلق بحرب إسرائيل في غزة تختبر نطاق مسؤوليات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في مواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المحتملة.
- هايدي ماثيوز
جريمة الإبادة الجماعية غير موجودة في طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية—وهو أمر ملحوظ بشكل خاص في ضوء القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، زاعمة أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية كجزء من عملياتها العسكرية في غزة. وتزعم جنوب أفريقيا أن إسرائيل قتلت فلسطينيين، وألحقت بهم أذىً نفسيًا وجسديًا خطيرًا، وألحقت بهم ظروف حياة مصممة لتدميرهم، وفرضت تدابير لمنع المواليد—كل ذلك بقصد محدد لتدمير الفلسطينيين في غزة، وهي مجموعة وطنية أو عرقية أو عنصرية أو دينية محمية، كليًا أو جزئيًا، وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية.
وبشكل أساسي، خلصت محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني إلى وجود "خطر حقيقي وشيك يتمثل في إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه" بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من الإبادة الجماعية. وبعبارة أخرى، قررت المحكمة أنه على الأقل هناك خطر جدي يتمثل في ارتكاب إسرائيل أو أنها سوف ترتكب إبادة جماعية في غزة.
إنّ قرار محكمة العدل الدولية بوجود خطر جدي يتمثل في ارتكاب إبادة جماعية في غزة يشكل أهمية بالغة لأنه أدى رسميًا إلى تفعيل التزام جميع الدول الـ 152 الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية "باستخدام كل الوسائل المتاحة لها بشكل معقول، وذلك لمنع الإبادة الجماعية قدر الإمكان"، كما قضت المحكمة في قضية عام 2007 بشأن الإبادة الجماعية في البوسنة. ووفقًا لحكمها الصادر عام 2007 فإن واجب الدول الأخرى في التصرف لمنع الإبادة الجماعية ينشأ "في اللحظة التي تعلم فيها الدولة بوجود خطر جدي يتمثل في ارتكاب إبادة جماعية، أو كان ينبغي لها أن تعلم بوجوده في العادة". وبناءً على ذلك، فإن الأمر الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني الماضي يضع الدول—وخاصة تلك التي تربطها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية قوية مع إسرائيل، وبالتالي القدرة على التأثير بشكل فعال على القادة الإسرائيليين—تحت الملاحظة بأنها ملزمة بالتحرك لمنع الإبادة الجماعية في غزة.
في شهر مارس/آذار، رفعت نيكاراغوا دعوى ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية، استنادًا جزئيًا إلى مزاعم مفادها أن ألمانيا، باعتبارها دولة "تتمتع بعلاقة مميزة مع إسرائيل"، فشلت في القيام بواجبها في منع الإبادة الجماعية في غزة. وتزعم نيكاراغوا أنها فعلت ذلك من خلال "توفير الدعم السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل مع علمها التام وقت الترخيص بهذه الإمدادات" بأن مثل هذا الدعم من شأنه أن يسهل ارتكاب الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي.
ورغم أن قضية نيكاراغوا لم تحظ بتغطية إعلامية كافية نسبيًا في وسائل الإعلام الدولية، إلا أنها في الواقع القضية التي تنطوي على أوسع نطاق من التبعات القانونية بالنسبة للدول في مختلف أنحاء العالم التي تقدم الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري وغير ذلك من أشكال الدعم المادي لإسرائيل. وفي ردها على نيكاراغوا، اعتمدت ألمانيا على ما أسمته إجراءات الترخيص المحلية "القويّة" للمعدات العسكرية، وزعمت أنها "تقيّم بعناية ما إذا كان هناك خطر واضح" بأن يتم استخدام المواد المرخصة للتصدير "في ارتكاب جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات جسيمة" لاتفاقيات جنيف. وبدا أن محكمة العدل الدولية أعطت وزنًا كبيرًا لمزاعم ألمانيا، حيث رفضت إصدار أمر باتخاذ تدابير مؤقتة ضد الحكومة الألمانية.
ولكن في وقت لاحق من الشهر نفسه، أصدرت محكمة العدل الدولية جولة ثانية من التدابير المؤقتة ضد إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا، "في ضوء الحرمان المطول والواسع النطاق من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية التي تعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة". وعلى وجه التحديد، أمرت المحكمة إسرائيل بضمان "توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل، بما في ذلك الغذاء والمياه والكهرباء والوقود والمأوى والملابس ومتطلبات النظافة والصرف الصحي، فضلًا عن الإمدادات الطبية والرعاية الصحية" في جميع أنحاء غزة.
وفي الآونة الأخيرة، في شهر مايو/أيار، أصدرت محكمة العدل الدولية جولة ثالثة من التدابير المؤقتة، أمرت فيها إسرائيل بإنهاء هجومها العسكري على رفح في جنوب غزة على الفور. وبذلك، قررت المحكمة أن الوضع الإنساني في رفح، حيث لجأ أكثر من مليون فلسطيني نازح من أجزاء أخرى من غزة بحثًا عن المأوى، "يجب وصفه الآن بأنه كارثي"، وبالتالي تعريض الفلسطينيين في غزة لخطر متزايد من الإبادة الجماعية. وأعربت محكمة العدل الدولية عن قلقها بشكل خاص بشأن وضع نحو 800,000 فلسطيني نزحوا من رفح حتى منتصف مايو/أيار بسبب الهجوم العسكري الإسرائيلي، مشيرة إلى أن إسرائيل لم تقدم أدلة قادرة على معالجة المخاوف من نزوحهم إلى مناطق غير صالحة للسكن البشري.
ان طلب خان إصدار أوامر اعتقال وسلسلة أوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير مؤقتة تكشف معًا عن المنطق المنظم للحرب التي تشنها إسرائيل: حرمان الفلسطينيين في غزة عمدًا من "الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان".
- هايدي ماثيوز
وتعمل إسرائيل الآن عسكريًا في أجزاء من جنوب غزة حيث وجهت الفلسطينيين خلال الأشهر السبعة الأولى من حملتها العسكرية إلى الذهاب لضمان سلامتهم— الى ما يسمى "المناطق الآمنة" التي لا تصلح للعيش على الإطلاق. وفي الأيام التي تلت صدور حكم محكمة العدل الدولية الأخير، كثفت إسرائيل هجماتها على رفح، الأمر الذي أسفر عن عواقب مروعة بالنسبة لـ 1.4 مليون فلسطيني كانوا يبحثون عن ملجأ هناك. ووفقًا للأمم المتحدة، لم يتبق في رفح سوى 65,000 شخص، وهو ما يسلط الضوء على حجم النزوح الجماعي الذي تسبب فيه الجيش الإسرائيلي—وفي كثير من الحالات شمل فلسطينيين نزحوا عدة مرات منذ بدء الحرب. ووفقًا لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن مليون فلسطيني في جنوب غزة أصبحوا الآن "محاصرين في منطقة مزدحمة للغاية على طول الشاطئ في حرارة الصيف الحارقة" دون مياه نظيفة أو صرف صحي.
لقد شهدت الأيام التي تلت إعلان خان عن طلباته بإصدار أوامر اعتقال بعضًا من أكثر الهجمات دموية في غزة حتى الآن. فبعد يومين فقط من إصدار محكمة العدل الدولية أمرًا لإسرائيل بوقف هجومها على رفح، قصفت إسرائيل مخيمات للنازحين في رفح، ما أسفر عن مقتل 49 فلسطينيًا على الأقل وإصابة أكثر من 180 آخرين، في ما أصبح يُعرف على الفور باسم "مجزرة الخيام". وفي الثامن من يونيو/حزيران، وفي سياق عملية لإنقاذ أربعة رهائن، قصفت القوات الإسرائيلية سوقًا في النصيرات في وسط غزة وأطلقت النار فيه بشكل عشوائي، ما أسفر عن مقتل 274 فلسطينيًا على الأقل وإصابة أكثر من 700 آخرين.
ورغم أن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية مؤسستان مستقلتان تتمتعان بتفويضات منفصلة، إلا أن طلب خان بإصدار أوامر اعتقال وسلسلة أوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير مؤقتة تكشف معًا عن المنطق المنظم للحرب التي تشنها إسرائيل: حرمان الفلسطينيين في غزة عمدًا من "الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان". وبالإضافة إلى تشكيل الأساس لجريمة التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، فإن هذا الحرمان، بما في ذلك من الغذاء والخدمات الطبية والطرد المنهجي من المنازل، يمكن أن يشكل بموجب القانون الدولي فرضًا متعمدًا لظروف معيشية تهدف إلى إحداث التدمير المادي لمجموعة محمية، كليًا أو جزئيًا، وبالتالي يشكل عملاً من أعمال الإبادة الجماعية.