هنري جيه باركي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاي وزميل أول مساعد لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية.
English
قوبل الاعتراف التاريخي الذي قدمه الرئيس جو بايدن في نهاية الأسبوع الماضي بالإبادة الجماعية للأرمن بإدانات وبيانات إنكار متوقعة في تركيا. بايدن هو أول رئيس أمريكي وصف مذبحة بحق 1.5 مليون أرمني، والتي بدأت في عام 1915 على يد الإمبراطورية العثمانية المُحاصَرة، بأنها إبادة جماعية.
نجحت تركيا، التي هي حليف قديم ومهم في حلف الناتو، على مدى سنوات في ردع واشنطن عن تصوير الفظائع أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى على هذا النحو. وبدلًا من ذلك، كان على الرؤساء الأمريكيين أن يجدوا عبارات لا تزعج الأتراك في 24 أبريل/نيسان من كل عام، الذي هو يوم الذكرى الرسمي لأرمينيا.
ولكن، ما سبب التغيير الآن؟ ألا تخاطر إدارة بايدن، في أيامها المائة الأولى، بعزل حليف لها في أنقرة؟
الحقيقة هي أن واشنطن مختلفة اليوم، بعد أن وصلت العلاقات التركية الأمريكية إلى الحضيض في حالة نادرة على مدار السنوات القليلة الماضية. على الرغم من أن الحكومة التركية كانت تعتمد دائمًا على أصدقائها في الكابيتول هيل وفي البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية للتدخل في منع الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن عامًا بعد عام، إلا أن لديها الآن القليل من الأصدقاء في واشنطن، إن وجد أصلًا.
ويرجع ذلك إلى عدد من الخلافات السياسية العميقة بين الولايات المتحدة وتركيا، وبسبب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه، الذي يحكم بصورة مستبدة بشكل متزايد. لذا فإن التحليلات التي قدمها معظم المراقبين في واشنطن هي أن بايدن ليس لديه ما يخسره في اعترافه مؤخرًا بالإبادة الجماعية للأرمن.
ولكن حتى الاعتراف بكل ذلك، كان قرارًا نابعًا من بايدن بصورة شخصية أيضًا. الرئيس الجديد، منذ اللحظة التي تولى فيها منصبه، أربك الجميع عمليًا. فبعد مسيرة مهنية ملتزمة بالقواعد المتعارف عليها كعضو حذر وتصالحي في مجلس الشيوخ الأمريكي وحملة رئاسية معتدلة بشكل واعي، فاجأ بايدن البلاد بجرأة خططه.
فمن حزمة الإغاثة من فيروس كورونا البالغة 1.9 تريليون دولار إلى مقترحاته المتعلقة بالبنية التحتية واستعداده لمواجهة تغير المناخ، أظهر بايدن أنه ينوي أن يكون رئيسًا مختلفًا تمامًا. وتم تشبيه أفكاره التقدمية بأفكار فرانكلين روزفلت وليندون جونسون.
بعبارة أخرى، يريد بايدن أن يكون رئيسًا جريئًا غير خائف من الابتعاد عن الأعراف التقليدية والشعارات القديمة. فمن خلال الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، أظهر أنه لن يردعه أي شيء عن فعل ما يعتقد أنه الأمر الصحيح. كان بايدن، في معظم حياته المهنية كسيناتور، مناصرًا للقضية الأرمنية. فقد قال بايدن خلال حملته الانتخابية في عام 2019: "بالطبع إنها إبادة جماعية".
إن اعتراف بايدن بهذه الإبادة الجماعية هو تناقض صارخ مع الرئيس السابق باراك أوباما، الذي وعد بشكل قاطع بالاعتراف بالإبادة الجماعية خلال حملته الرئاسية لعام 2008. ورغم ذلك، وعندما حانت اللحظة، أثبت أوباما أنه متردد في الإقدام على هذه الخطوة.
أوباما كان يخشى، مثل الرؤساء الآخرين من قبله، تنفير تركيا وتجنّبَ ذكر "إبادة جماعية". وبذل قصارى جهده لاستحضار عبارة أرمينية بديلة (Med Yeghern) والتي تُترجم "الكارثة الكبرى". وأضاف أوباما في سنته الأخيرة في المنصب وصفًا آخر لم يصل إلى حد الإبادة الجماعية، وهو: "أول فظاعة جماعية في القرن العشرين".
إلا أن بايدن، وبعد شهور فقط من توليه الرئاسة، سمى الأمور بمسمياتها بلا خجل وميّز نفسه عن رئيسه السابق، موضحًا أنه حاسم ولا يخشى اتخاذ قرارات صعبة عند الحاجة.
وعلى الرغم من غضب الأتراك، ينبغي عليهم أن يهنئوا أنفسهم على منعهم للأمريكيين من القيام بهذا الأمر لفترة طويلة بالرغم من أن دول كثيرة أخرى قامت به. ولا شك أن الدعوات إلى معاقبة واشنطن ستكثر في أنقرة.
فقد هدّد المتحدث باسم أردوغان بشكل غامض "برد فعل بأشكال وأنواع ودرجات مختلفة". لكن الحقيقة هي أن أيادي تركيا مقيدة. إنها بحاجة إلى الولايات المتحدة أكثر بكثير من حاجة الولايات المتحدة لتركيا، خاصة في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي وعملته من سنوات من الإدارة السيئة في عهد أردوغان، بالإضافة إلى أزمة جائحة كورونا الحالية. إن تبادل التصريحات الناقدة مع إدارة بايدن، مع إجراءات عقابية أخرى، لن يساعد الاقتصاد التركي على التعافي وجذب الاستثمار الأجنبي الذي تشتد الحاجة إليه.
سيجد صناع السياسة الأتراك قريبًا أن لديهم أمورًا أخرى تقلقهم. فإدارة بايدن لن تسحب بيانها. علاوة على ذلك، يعتبر اعتراف الولايات المتحدة بالإبادة الجماعية للأرمن مشكلة من نوع مختلف بالنسبة لتركيا عن القضايا الأخرى التي تخلق الشق بين واشنطن وأنقرة والتي تؤثر على العلاقات بشكل يومي.
فقد قامت تركيا العام الماضي بشراء نظام الدفاع الجوي الروسي المتقدم S-400، على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من أنها ستهدد أمن وأسرار الطائرة المقاتلة الجديدة F-35.
ثم طردت الولايات المتحدة تركيا بشكل غير رسمي من برنامج طائرات F-35، الأمر الذي كان له كلفة باهظة. لم تكن تركيا ستشتري عددًا كبيرًا من طائرات F-35 فحسب، بل كانت أيضًا شريكًا أساسيًا في تصنيع العديد من مكوناتها، الأمر الذي كان سيمكنها من تصدير قطع من تلك الطائرات وبالتالي جني العملات الأجنبية التي هي في أمسّ الحاجة إليها.
هناك انقسامات خطيرة أخرى، خاصة فيما يتعلق بتحالف أمريكا مع الأكراد السوريين لمحاربة واحتواء تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. لقد عارض أردوغان بشدة هذه السياسة منذ عام 2014 وفعل كل ما في وسعه لتخريبها.
تشعر الحكومة التركية، التي تحارب سكانها الأكراد سياسيًا وعسكريًا منذ سنوات، بالقلق من أن الأكراد السوريين سيحصلون على نوع من الحكم الذاتي مثلما حصل مع إخوانهم العراقيين في تسعينيات القرن الماضي بمساعدة الولايات المتحدة. فهي ترى في دعم أمريكا للأكراد عبر الحدود في سوريا تهديدًا خطيرًا لسيادة تركيا.
لم يساعد أردوغان نفسه في واشنطن، حيث تصرف ببلطجية في شرق البحر الأبيض المتوسط وأماكن أخرى، وكان يتوقع دائمًا أن تلتزم الولايات المتحدة بمطالبه مع إلقاء اللوم على الأمريكيين باستمرار في جميع مشاكل تركيا، ما يعمّق المشاعر المعادية لأمريكا في الداخل التركي.
حتى أنه أخذ هذا السلوك إلى واشنطن نفسها، حيث هاجم أفراد من حراسة أردوغان الأمنية بشكل سيء مجموعة من المتظاهرين، العديد منهم من المواطنين الأمريكيين، خارج مقر إقامة السفير التركي في عام 2017.
وقد ذهبت محكمة تركية إلى حد إلقاء القبض ومحاكمة ثلاثة موظفين أتراك بالقنصلية الأمريكية في اسطنبول بتهم الإرهاب التي يقول دبلوماسيون أمريكيون بأنها لا أساس لها من الصحة.
لذلك، من غير المرجح أن يؤدي اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية إلى جعل الأمور أسوأ في هذه المرحلة. وعلى الرغم من كل العداء المتبادل بينهما، فإن حقيقة الأمر هي أنه لا يزال يتعين على تركيا والولايات المتحدة التعاون في مجموعة كاملة من القضايا التي لا يمكن الاستغناء عنها، انطلاقًا من الناتو والمصالح الأمنية المتبادلة الأخرى إلى التعاون الاقتصادي والتجارة.
وفي حين أن العلاقات باردة ولن تكون أكثر دفئًا في المستقبل القريب، إلا أن اعتراف بايدن الذي طال انتظاره بالإبادة الجماعية للأرمن سيكون ضمن سلسلة يراها أردوغان ببساطة على أنها، أفعال شائنة أخرى من قبل الولايات المتحدة.
مصدر الصورة: مؤيدو أرمينيا في مسيرة خارج السفارة التركية في واشنطن في اليوم الذي اعترف فيه الرئيس جو بايدن رسميًا بالإبادة الجماعية للأرمن، 24 أبريل/نيسان 2021. (تصوير تاسوس كاتوبوديس/غيتي إيماجز).