إعلامي ومعارض سوري مقيم بالولايات المتحدة
عندما بدأ الإصلاحي جمال الدين الأفغاني حملته ضد الشاه ناصر الدين بسبب الامتيازات التي يمنحها للشركات الانكليزية باحتكار محصول التبغ في بلاد فارس وتقديم أهم محاصيل البلاد للاجانب، باتت حياة الأفغاني مستحيلة في بلاده، بعد أن تعرض للذل والمهانة والضرب، فاختار طريق المنفى..
إلى أين ذهب؟ لقد ذهب إلى إنكلترا التي كان يتهمها بأنها تدعم فساد الشاه..
اختيار الأفغاني لإنكلترا وقبول الحكومة البريطانية استقباله أثار غضب الشاه ناصر. فكتب رسالة هائجة الى اللورد سالزبوري وزير الخارجية البريطاني يقول فيها: لقد طردنا هذا الرجل (الأفغاني) لأنه كان يعمل ضد مصالح إنكلترا فإلى أين التجأ؟
لقد ذهب الى لندن وفتحت له الصالونات لانتقاد الحكم في ايران..
هذه القصة كانت في القرن التاسع عشر، ولكنها تبدو معاصرة جدا.. أنظمة فاسدة تخنق كل صوت إصلاحي، ومنفي يغادر وطنه، ولكنه لايجد مكانا آخر غير الغرب الذي يقول إنه يدعم حكامه الفاسدين..
في أزمان سابقة كان الشرق والغرب متلاصقين مثل توأمين، وقتها كان ذلك يسمى بالاستعمار، أو كانت تطلق عليه تسمية ملطفة أكثر مثل الانتداب أو الوصاية او الحماية..
بعدها انفصل العالمان، وبات الشرق شرقاً والغرب غرباً، إلا أن مصيرهما المشترك لم ينفصل. فالاستعمار ترك أنظمة حكم ديمقراطية في البلدان المستعمرة، ولكنها كانت هشة جداً، وسرعان ما أطاحت بها الانطمة الوطنية أو انقلابات عسكرية بذريعة مواجهة الغرب..
بعدها بدأت المعركة بين أنظمة الاستبداد الوليدة والإصلاحيين، لكنها معركة غير عادلة، انتهت لمصلحة الأنطمة، وغادر المعارضون أوطانهم إلى المنافي، أو من استطاع الى ذلك سبيلاً قبل ان يختفي في المعتقلات..
المنفيون العرب قدموا منفاهم ليس كهزيمة، بل بطريقة شاعرية كمقدمة لنصر قادم. فالمنفيون الإسلاميون يقولون إن الرسول محمد نفسه هو أول المنفيين، بعد أن عانى الاضطهاد في مكة، ولكنه عاد من منفاه منتصراً..
والشيوعيون لديهم أيقونتهم كذلك.. فالمنفي لينين عاد على متن قطار استاجرته المخابرات الألمانية إلى موسكو، ليقود الثورة البلشفية..
وفِي أزمان أقرب.. آية الله الخميني كان منفياً أيضاً، قبل أن يعود على متن الخطوط الجوية الفرنسية ليقود ثورة عاصفة ضد كل "الشياطين" في الغرب..
المنفيون العرب تحولوا إلى جسر بين عالمين، تزداد العلاقة بينهما تعقيداً، في أدبياتهم تبدو صورتهم كصلة حية مع الغرب لنقل التجربة الديمقراطية الى أوطانهم، لكن القصة ليست بهذا التبسيط، فبعض هؤلاء المنفيين كانوا يطالبون بالديمقراطية لتملق الغرب، كي يصلوا إلى الحكم.. ولكن عندما وصلوا، كانوا أسوأ من الديكتاتوريين الذين قبلهم..
في مدن الجنوب العراقي، رفعت تظاهرات الحراك الشعبي صور الديكتاتور السابق صدام حسين رداً على القمع والفساد في عهد حكومات نوري المالكي، وحيدر العبادي، وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، اذين كانوا منفيين سابقين..
القصة ليست معقدة من جهة المنفيين، بل ايضا من جهةٍ الغرب..
هذا الغرب اعترف في لحظة صدق أنه دعم أسوأ الديكتاتوريين، فيوماً قالت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة كونداليزا رايس: على مدى ستين عاماً دعمنا الديكتاتوريين حين كنا نتحدث عن الحرية..
لماذا كانت القصة معقدة لهذه الدرجة في الغرب؟
ربما لان جزءا من السياسات الغربية كانت تعتبر الديمقراطية صناعة غربية لا تصلح للعالم العربي أو الإسلامي، والسياسات الحقيقية تصنعها المصالح الاقتصادية، والغرب في نهاية الامر ليس مؤسسة خيرية ولا يعلق صورة الأم تريزا على مدخل شركاته..
الضلع الأخير في المثلث هو الديكتاتوريين العرب، الذين يطلبون رضى الغرب ليلا نهارا، ويعتمدون عليه لاستمرار حكمهم ضد مصالح شعوبهم، ولكنهم يواصلون التنديد بالغرب بوصفه المكان الذي تدار منه المؤامرات ضد أنظمتهم الوطنية..
ربما ليس غريبا أن يفعل هذا نظام الملالي في طهران، أو نظام البعث، ولكن حتى أنظمة موالية للغرب مثل نظام عبد الفتاح السيسي في مصر تتحدث عن مؤمرات غربية ضدها، والمنفيون الذين يريدون مساعدة الغرب يحملون الغرب مسؤولية دعم أنظمة حكامهم المكروهين.
لقد بقيت الحساسية للديمقراطية في العالم العربي موسمية. فالعلماني يتحدث عن الديمقراطية، ولكن إذا وصل الإسلاميون الى الحكم، لايجد أدنى حرج في دعم انقلاب عسكري. والإسلاميون ينظر إليهم خصومهم على أنهم يريدون الديمقراطية، ليصلوا إلى الحكم ويقوموا بعدها بإلغاء الديمقراطية..
كل ما يحصل وسيحصل يحول قصة الديمقراطية العربية الى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.. لاشيء يتغير، وكل يوم ينتهي بنفس الطريقة، ممارسة الجنس والعودة الى البداية من جديد..
هل تهرب الديمقراطية من العرب.. أم هم الذين يهربون منها؟