بلقيس والي باحثة أولى في الأزمات والصراعات في منظمة هيومن رايتس ووتش.
بلقيس والي باحثة أولى في الأزمات والصراعات في منظمة هيومن رايتس ووتش.
English
عندما اندلعت الاحتجاجات في بغداد وأجزاء أخرى من وسط وجنوب العراق في أكتوبر/تشرين الأول 2019، خرج عشرات الآلاف من الشباب إلى الشوارع مطالبين بتحسين الخدمات الحكومية والمزيد من الإجراءات لكبح الفساد المستشري. وسرعان ما تطورت الاحتجاجات إلى دعوات للمساءلة، في حين استخدمت قوات الأمن القوة المفرطة بشكل متكرر ضدها، ما أسفر عن مقتل المئات من المتظاهرين السلميين إلى حد كبير.
ورغم أن الاحتجاجات قد تضاءلت منذ ذلك الحين، إلا أن عمليات القتل هذه لم تتضاءل، مع استمرار الجماعات المسلحة المختلفة في استهداف منتقدي الحكومة، بمن فيهم الصحفيون والنشطاء، في جو يسوده الإفلات من العقاب.
وفي حال لم تكن السلطات العراقية قادرة على اتخاذ خطوات عاجلة لوقف عمليات القتل خارج نطاق القضاء هذه، فإن مناخ الخوف الملموس الذي خلقته سيحدّ بشدة من قدرة أولئك الذين كانوا يدعون إلى التغيير على المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة المقرر إجراؤها في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
كان المتظاهرون في أواخر عام 2019، الذين كانوا يطالبون بمزيد من الإجراءات الحكومية لكبح الفساد وضمان الوصول الكافي للكهرباء والمياه والوظائف، سلميين في الغالب. لكن القوات المسلحة في بغداد وأجزاء أخرى من العراق استخدمت الذخيرة الحية لاستهداف المتظاهرين، بل واختطفت واعتدت على وقتلت منظمي الاحتجاجات، ودفعت أولئك الذين ما زالوا في الشوارع إلى المطالبة بالمساءلة عن قمع القوات الأمنية.
ولم يتمكن رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي من وقف أعمال القتل أو محاسبة المسؤولين عنها، الذي استقال في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ممهدًا الطريق أمام حكومة تصريف أعمال بقيادة مصطفى الكاظمي بانتظار انتخابات جديدة.
وبينما نظر بعض المراقبين، بمن فيهم أنا، إلى هذه الأحداث بيأس عميق بسبب عدد القتلى الذي تجاوز 500 شخص، استمر آخرون تحدثتُ معهم في العراق، بتسليط الضوء على ما اعتبروه إنجازًا كبيرًا لحركة الاحتجاج.
كان المتظاهرون في ساحة التحرير بوسط بغداد متحمسين لفرصة التغيير السياسي، وهي فرصة لإعادة كتابة العقد الاجتماعي بين الحكومة العراقية والشعب الذي تم كتابته في أعقاب الغزو والاحتلال الأمريكي.
كما أمضى الكثيرون أشهر في الميدان في مناقشة المُثُل السياسية وفي نهاية المطاف تشكيل أحزاب سياسية ذات برامج مدنية. كان بعض المتظاهرين والنشطاء الحقوقيين وحتى الدبلوماسيين الأجانب في بغداد متفائلين تمامًا في تلك المرحلة بأن الحركة ستكون قادرة على تأمين تغيير حقيقي.
لكن بدلًا من ذلك، على مدار العام ونصف العام الماضيين، تضاءلت الاحتجاجات، بينما استمرت عمليات القتل. تذكر التقارير أن المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان في العراق سجلت 81 محاولة اغتيال ضد نشطاء وصحفيين مناهضين للحكومة منذ بدء المظاهرات، نجح 34 منها. ووقع ما يقرب من ثلث عمليات القتل منذ أن تولى الكاظمي السلطة قبل عام.
استهدفت العديد من عمليات القتل والاختطاف هذه الأشخاص الذين كانوا يقودون الأصوات خلال المظاهرات والصحفيين الذين قاموا بتغطية الأحداث الجارية في بغداد ومراكز الاحتجاج الأخرى. وعلى الرغم من خطورة ونطاق حملة الاغتيالات المستمرة، فشلت حكومة الكاظمي في ضمان أي محاسبة أو عدالة.
أنشأ الكاظمي، بعد فترة وجيزة من توليه المنصب، لجنة في مايو/أيار الماضي للتحقيق مع المسؤولين عن قتل المتظاهرين ومحاسبتهم، لكن اللجنة لم تنشر أي نتائج بعد. هناك القليل من الدلائل الأخرى على أنه أحرز أي تقدم آخر. أصبحت الجماعات المسلحة وقحة للغاية لدرجة أن المسلحين لا يخشون الاقتراب من شخص ما في منتصف الشارع في مدينة عراقية كبرى وإطلاق النار عليه دون الخوف من أي عواقب.
ولعل أقوى رسالة للإفلات من العقاب كانت تلك التي أرسلها أولئك الذين قتلوا الدكتور هشام الهاشمي، أحد أعضاء النخبة السياسية في بغداد والحليف المقرب والمستشار لرئيس الوزراء، في يوليو/تموز 2020. على الرغم من تعهد الكاظمي بمحاسبة قتلة الهاشمي، حيث قال: "نتوعد القتلة بملاحقتهم لينالوا جزاءهم العادل"، مرت الجريمة بلا عقاب. بدا الأمر بالنسبة لي، وللعديد من الآخرين، وكأنها لحظة كش ملك بين هؤلاء القتلة والحكومة العراقية.
وبسبب عمليات القتل المستهدف هذه، اضطر العديد من الذين قادوا الاحتجاجات والذين أرادوا أن يصبحوا روحًا لحركة سياسية جديدة في العراق إلى الفرار من ديارهم خوفًا أو إلى الجنوح للصمت. ومن المرجح ألا يخاطر البعض، إن لم يكن معظمهم، بتنفيذ حملة سياسية عامة تركز على التنديد بمن يقف وراء هذه الانتهاكات، أو الدعوة إلى مطالب المحتجين الأولية بالمحاسبة على هذه الأفعال.
وهكذا، بدلًا من إحداث تغيير سياسي، قد تكون النتيجة الرئيسية للاحتجاجات هي دفع العراق إلى الفوضى. فالعديد من الجماعات المسلحة التي تقف وراء عمليات القتل الأخيرة لديها أحزاب سياسية، بعضها موجود بالفعل في البرلمان، وقد تتمكن هذه الأحزاب من استخدام الانتخابات المقبلة لترسيخ نفسها بين النخبة الحاكمة.
وكلما زادت قدرة هذه الجماعات على دخول الهيكل الحاكم وكبح الجهود لوقف عمليات القتل، وتوفير العدالة للضحايا، كلما بدا مستقبل العراق أكثر قتامة.