هنادي الخطيب صحفية وكاتبة سورية مقيمة في تركيا
سألتني صحافية تركية: من أين أنت؟
أخبرتها أنني سورية، فقالت: أنا آسفة.
هززتُ رأسي وقلت: أنا أيضاَ.
عندما سألتني الصحافية التركية عن جنسيتي، ولمست تعاطفها معي، خطر لي أن أقول لها أنني امرأة سورية أحب كما تحبون، ولكن في بلد غير بلدي، وأكره كما تكرهون ولكن صوتي أخفض لأنني أسير بشوارع مدينة لا أنتمي إليها، وأقرأ الشعر وأشاهد السينما كما تفعلون، وحبيبي اليوم لا يجد وقتاً ليغازلني، فيصرف الوقت في الحديث عن انكساراتنا وهزيمتنا، وأشاركه الحديث فأغضب عندما يغضب وأضحك عندما يضحك، أساير همومه على أمل أن يساير همومي فتفلت منه كلمة غزل، ولكنه مسكون بسوريا التي يكاد أن ينسى شوارعها.
واليوم أنا كصحفية سورية أحمل جواز سفر سوري مطبوع شعار النظام السوري على غلافه، غير مسموح لي زيارة بلدي.
كلما مررت بمطار يخطر ببالي أن أخطف جواز سفر خال من كلمة "سوريا"، ويحمل لوناً أخراً غير الكحلي، لأنه يضعني طوال الوقت في خانة المشتبه بهم. مشتبه بأني أحمل جواز سفر مزور، أو مشتبه بأنني إرهابية.
مشتبه بأنني لاجئة محتملة وعبء جديد على أي بلد سأصل إليه، وفي المطارات أراقب ألوان تلك الكتيبات التي يسافر بها البشر الطبيعيون، ويمرون بواسطتها من موظفي الأمن بالمطارات بطريقة طبيعية.
أشعر أن أحد حقوقي أن أحمل جواز سفر يمنحني الإحساس بأنني إنسانة طبيعية، ولست حاملة وباء معدي، أو مشروع مجرمة بتهمة لا يشغل أحد باله في التأكد من صحتها ومن صلاحيتي كمجرمة أو من انتهاء تلك الصلاحية كإنسان.
وأنا أيضاً صحفية سورية أعيش وأعمل خارج بلدي، أكتب عنه وله، ولا أستطيع رؤيته، أتخذ موقفاً من بعض الصحافة العربية والغربية على حد سواء، لأنني أعرف أن بضاعتي من الكلمات لا سوق لها ضمن الأخبار الترويجية لمسابقات ملكات الجمال.
أنا الصحافية الضيفة في بلد آخر، أرى وأتابع تأفف أوروبا من اللاجئين السوريين، وأقرأ عنه في يوميات أصدقاء لاجئون يحاولون الاندماج فيتنكر بعضهم لبلدنا المشترك، على أمل أن ينال الرضى من بعض العنصريين في بلاد اللجوء.
أنا التي أعمل صحفية خارج بلدي، أكتب الأخبار عن الاتفاق التركي الأوروبي الذي حكم بالإعدام علينا، وأشعر بالغضب بعد قرارات ترامب بوضع جنسيتي ضمن الجنسيات الممنوعة من الدخول لأمريكا لأننا إرهابيين بالفطرة، ولا أدري إن كان شعوري سيكون ذاته لو أنني لم أضطر للهرب من الموت أو الاعتقال أو هدر الكرامة في بلدي.
أشعر كل يوم أنني صحفية بقلم مكسور، أنشغل بحروب السوريين الإعلامية في بلاد المنفى، ما بين طرفين يتسابقان بالنيل مني كامرأة تحمل جنسيتهم ذاتها، فيصفوني بالعاهرة في كل مناسبة يقرر أحدهم النيل من الطرف الآخر..
الجنسية التي وبمجرد ذكرها يدير الآخرون وجوههم، لتتحول الحروب الإعلامية العبثية بين ضفتي النظام ومعارضوه، إلى تفنن بالكذب واختراع الأخبار، فأهرب أحياناً من قسوة الكلام إلى فسحة المرأة في داخلي، ولكنها فسحة تضيق كل يوم..
رغم أنني لا أعيش في الخيمة، ولا أبرد في الليل، ولا أنتظر مساعدات من المنظمات التي يقولون أنها إنسانية، ولكنني أعرف نساء غيري حيث أعيش، يقبلون التحدث معي بعد أن يعرفوا أنني صحفية من بلدهم، وأخجل أن أخبرهن أنني أختلف عنهن وأجد ما أطعم به ابنتي، لأنني أعمل هنا في المدينة التي قست عليهن..
لكنهن تتآمرن خلسة معي، فلا تسألنني عن حياتي، فتتحدثن معي عن الابتزاز الذي تتعرضن له للحصول على لقمة العيش، وعن برد الشتاء وتجاهل المنظمات لهن..
تتحدثن معي عن عشاق غابوا وشوقهن لتبدون جميلات ولكنهن استغنين عن المرآة في حياتهن، لصالح انتظار العودة إلى بيتهن وأرضهن حيث يمتلكن كلمات السر للحياة.