يوسف محمد الصواني هو أستاذ السياسة والعلاقات الدولية بجامعة طرابلس في ليبيا.
د. يوسف محمد الصواني، أستاذ السياسة والعلاقات الدولية، جامعة طرابلس، ليبيا
ظلت ليبيا لأكثر من أربعة عقود تحت هيمنة نظام القذافي التسلطي، مستغلا القوة الهائلة التي توفرها أموال ريع النفط والضعف الكامن في مقومات المجتمع الليبي وضعف تقاليد المجتمع المدني والثقافةالديمقراطية. مع ذلك، فإن الليبيين لم يتأخروا عن الموعد، فبمجرد انطلاق شرارة الربيع العربي في أواخر 2010 في الجارة الشقيقة تونس، شرعوا في انتفاضة شعبية واسعة سرعان ما شملت كامل البلاد، تمكنت في نهاية المطاف وبعد ثمانية أشهر من الحرب الداخلية والدعم الخارجي المباشر من إنهاء النظام والدخول في مرحلة تاريخية جديدة حاسمة.
ظلت ليبيا لأكثر من أربعة عقود تحت هيمنة نظام القذافي التسلطي، مستغلا القوة الهائلة التي توفرها أموال ريع النفط والضعف الكامن في مقومات المجتمع الليبي وضعف تقاليد المجتمع المدني والثقافة الديمقراطية. مع ذلك، فإن الليبيين لم يتأخروا عن الموعد، فبمجرد انطلاق شرارة الربيع العربي في أواخر 2010 في الجارة الشقيقة تونس، شرعوا في انتفاضة شعبية واسعة سرعان ما شملت كامل البلاد، تمكنت في نهاية المطاف وبعد ثمانية أشهر من الحرب الداخلية والدعم الخارجي المباشر من إنهاء النظام والدخول في مرحلة تاريخية جديدة حاسمة.
كيف صارت الأمور على ما هي عليه؟
انطلق الليبيون في المرحلة الجديدة من دون أي خبرة سياسية، ودون مؤسسات مجتمع مدني، وبدون خبرة سابقة في الحركات الجماهيرية، وقد أبانت التجربة اللاحقة لسقوط النظام في اغسطس 2011 الآثار السلبية العميقة لهذه العوامل. كان العنف الذي اتسمت به الثورة ضد القذافي على جانبي الانقسام انعكاسا لعدم وجود أي درجة من الانسجام أو الروابط بين المجتمع والدولة التي كان لسياساتها الدور الأكبر في إحداث الانقسام الذي تعمق بفعل التدخل الأجنبي. وبينما كان لعسكرة الثورة والتدخل الخارجي الدور الحاسم في الإطاحة بالقذافي، فإنه من ناحية أخرى ولد البيئة التي تهدد الاستقرار والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.
هكذا كانت أول النتائج السلبية هي حدوث استقطاب جعل المناطق التي لم تنتفض تحرم من الحصول على تمثيل ملائم وتتعرّض للإهانات والتقليل من شأنها أو للاعتداء والتهجير القسري من قبل مناطق أخرى، وصارت القبيلة التي تم استغلالها من قبل النظام والسلطات الانتقالية عنصرًا للإضطراب وتضييق أفق المصالحة على أهميتها المصيرية، رغم ما لعبته تاريخيا من دور معزز للوحدة الوطنية والسلم الاهلي.
لا يمكن بطبيعة الحال تحميل الثورة والناس جريرة ما جرى وما يحصل الآن، مثلما لا يمكن الاكتفاء بالقول بأن هذا فقط نتيجة لدكتاتورية القذافي وسياساته خاصة بعد مرور عشر سنوات على الإطاحة به وقتله. ان التحديات الهائلة التي تواجهها ليبيا في ظل سياقات التدخل الأجنبي الفاضح و ما يماثل الانهيار شبه الكامل للدولة وإفتقار المؤسسات الموجودة شرقا وغربا الشرعية، تعود في الواقع الى فشل القوى المتصارعة وتلكؤ المجتمع الدولي واطرافه الملتزمة بتطوير نظام ديمقراطي في ليبيا، في العمل على تبني رؤية مشتركة تمكن ليبيا من أن تتجاوز بنجاح إرث القذافي ومآلات الصراع بعد عام 2011.
لكن أخطر تلك العوامل هو ما يتعلق بفشل النخبة السياسية وقادة المرحلة والسلطات الانتقالية في لعب دور وطني بناء يتجاوز ويتغاضى عن المصالح الفردية أو الجهوية أو الحزبية الضيقة. لذلك
رأينا هؤلاء لا يبالون بعدم احترام القانون والعبث بالتشريع واستخدامه لأغراض سياسية وحزبية وجهوية بحجة ومبرر الشرعية الثورية الجديدة، أو خدمة لأغراضهم السياسية أو المناطقية أو الشخصية. هذه العوامل كان لها بالغ الأثر وتداعيات خطيرة على المصالحة الوطنية وبناء الدولة، الذي اصبح هدفا بعيد المنال مع تصاعد وتيرة التدخل الخارجي الذي ينذر وخاصة منذ ابريل 2019 بتحول ليبيا الى ساحة للحرب الاقليمية.
إحباطات الانتقال الديمقراطي والهشاشة يواجه الانتقال الديمقراطي في ليبيا تحديات عديدةـ ، ومن المؤكّد أن فرص نجاح عملية الدمقرطة تتضمّن القدرة على الاستجابة لهذه التحديات. وفي خضم الجدل السياسي والتنافس متعدد المستويات تغيب اية مناقشة جادة للقضايا الهامة المتعلقة بالأقتصاد والتنمية والثقافة الديمقراطية المدنية والخير العام ، ولا تبرز الى السطح سوى الجدالات والصراعات على الموارد والثروة بحجج مختلفة لا تخفي سوى الفساد المنتشر بعمق.
لم تفلح جهود الأمم المتحدة وبعثتها الخاصة بالدعم في ليبيا في تجاوز المعضلات التي تمثل جوهر الأزمة الليبية ولم تنجح سوى في تقديم تصورات وخرائط طريق لتقاسم السلطة آخرها ما يعرف بالإتفاق السياسي الليبي الذي وقع في الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015. لم تفلح تلك الترتيبات سوى في زيادة عدد المكونات أو عناصر الأزمة السياسية ولم تتمكن السلطة التي نجمت عنها (حكومة الوفاق) في تحقيق ما اقيمت لأجله، بل أدت إلى المزيد من الانقسام والاحتراب. لم تحظ حكومة الوفاق الناتجة منذ ولادتها بقبول واسع وشرعية من الكثير من الأطراف بما في ذلك في الغرب الليبي، فكانت النتيجة هي مأسسة الخلاف بعد أن تراكمت الخلافات بين السلطات أو الفاعلين في الشرقوالغرب.
كما ساهم الفساد والمحاصصة في توزيع الوظائف في استزاف موارد البلاد وتهديد وحدتها كما أبانت الاحداث منذ هجوم قوات الجيش الذي يقوده اللواء خليفة حفتر على طرابلس، وتظاهرات الغضب على تدني مستوى المعيشة التي عمت مدن الغرب والجنوب مؤخرا.
السياق الاقليمي وصراع الربيع والخريف العربيان ان ما تواجهه ليبيا يجري في بيئة وسياق ما يمكن وصفه بالحرب الباردة العربية الثانية التي انتجها الربيع العربي الذي قسم المنطقة الى دول ثورية ودول اصلاحية ودول اقوى ولكنها مضادة للتغيير، أو هي دول "الثورة المضادة". هذا السياق الأقليمي لن يكون محفزا على تسريع عملية الإنتقال الديمقراطي وخاصة ما يتعلق باصلاح النظم والمؤسسات الأمنية والقضائية والحقوقية وتأسيس ثقافة جديدة تعتمد القيم الديمقراطية.
إن قدرا كبيرا من الصراع الليبي الداخلي يرتبط بالخارج وهو ما يبرز في ما تقوم به قوى سياسية من أعمال تخرج عن القانون في احيان كثيرة مما يجعل الدولة ومؤسساتها محل تساؤل لناحية الشرعية. هذا يطرح بالتأكيد اسئلة حاسمة تتعلق بالمدى الذي يمكن فيه إقامة تفاعل منتج بين مقومات ليبيا كمجتمع واقتصاد وثقافة وتاريخ، وطموحات وآمال التغيير وبناء الدولة الجديدة.
اتفاق السلام الشامل ، المصالحة والحاجة لعقد اجتماعي الجديد رغم ولوج البلاد في مرحلة الانتقال الديمقراطي وإجراء ثلاثة إنتخابات وتوقيع الإتفاق السياسي برعاية الأمم المتحدة في بلدة الصخيرات المغربية، فقد استمر الوضع هشا على كل المستويات. اتضح أن ترتيبات تقاسم السلطة قد أثبتت عدم فعاليتها فقد تجاهلت حقيقة أنه لا يمكن تقاسم أي سلطة قبل أن يتم إنشاؤها فعليًا. لقد ساومت الحكومات المتعاقبة بمؤسسات الدولة وشرعيتها وخصصت الموارد لخدمة مصالح الميليشيات وحلقات الفساد التي أصبحت السلطة الحقيقية وهو ما قاد إلى تواصل دورات من الحرب الأهلية وتشظي السلطة الرسمية.
بدل التركيز فقط على الانقسام والخلاف، فإن خبرة السنوات الماضية ورصيد التعايش والوئام الذي عرفته البلاد عبر تاريخها إضافة الى مقومات الوحدة الظاهرة ، ينبغي ان يسلط الضوء بكل قوة على الحاجة إلى استراتيجية شاملة ، وأن يتم العمل من أجل تسهيل خلق إجماع وطني أو عقد اجتماعي جديد أوسع. إن المصالحة الشاملة وإبرام اتفاق سلام شامل لا يقصي اياً من الأطراغ أو المكونات هما السبيل الوحيد للصمود أمام التحديات وتجاوز عبثية وعدم جدوى مقاربات تقاسم السلطة وما يسمى بالديمقراطية التوافقية أو المحاصصة.