مراقب المحاكمة للمركز السوري للعدالة والمساءلة
English
عندما أدانت محكمة في ألمانيا الشهر الماضي عقيداً سورياً سابقاً في مديرية الإستخبارات العامة (تابعة للمخابرات سيئة السمعة) بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كان ينظر إليه على نطاق واسع على أنه حكم تاريخي. حكمت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز على أنور رسلان بالسجن مدى الحياة لكونه شريكاً في 4000 قضية تعذيب وحرمان من الحرية، و27 قضية قتل، وثلاث حالات عنف جنسي، وقعت جميعها في فرع للمخابرات في دمشق حيث أشرف على سجنها واستجواب المحتجزين.
وفي حين حظي الحكم باهتمام دولي واسع النطاق، إلا أن تقييم أهمية المحاكمة بالنسبة للعديد من السوريين أنفسهم كان أكثر كتماناً. وقد وصفها البعض بأنها "مجرد بداية لصراع أوسع نطاقاً". وسأل أحد المحتجزين السابقين الذي أدلى بشهادته في كوبلنز: "هل هذا هو نوع العدالة التي نبحث عنها؟" هذه اللغة الحذرة وحتى المتناقضة في بعض الحالات من قبل السوريين بعد صدور الحكم لا تعكس تجاربهم الخاصة في سوريا وانتقاداتهم لمحاكمة كوبلنز نفسها فحسب، بل تعكس أيضا الآفاق القاتمة للعدالة والمساءلة في حين أن الرئيس بشار الأسد وكبار المسؤولين في حكومته لا يزالون بعيدين عن متناول أي محكمة.
وكانت بعض أوجه القصور في المحاكمة قد تكشفت بالفعل في العام الماضي بمجرد أن كانت جارية في كوبلنز، ولا سيما فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية الألمانية وتطبيقها في القضايا بموجب مبدأ "الولاية القضائية العالمية" – فكرة أن أي دولة يمكن أن تحاكم أي فرد متهم بارتكاب الجرائم الدولية الأساسية المتمثلة في الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان المرتكبة في أي مكان آخر في العالم.
وبما أن سوريا ليست دولة طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وبسبب الجمود داخل مجلس الأمن الدولي بشأن إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن المحاكمات المحلية الخاضعة للولاية القضائية العالمية هي السبيل الوحيد للسوريين للبحث عن العدالة والمساءلة عن جرائم الحرب المرتكبة خلال ما يقرب من 11 عاما ًمن النزاع. وينبغي على ألمانيا وغيرها من البلدان التي تتصدر إجراء مثل هذه المحاكمات أن تدمج الدروس المستفادة في كوبلنز، بالإضافة إلى وضع توقعات واقعية حول تأثيرها على الوضع في سوريا.
إن مشاركة السوريين ومساهمتهم في هذه الجهود هائلة، بما في ذلك عمل منظمات المجتمع المدني السورية على إنشاء سجل تاريخي لمحاكمة كوبلنز – وهي جهود مستمرة الآن في محاكمة طبيب سوري في فرانكفورت يدعى علاء م.، الذي تتهمه النيابة العامة الألمانية أيضاً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتهم أخرى بالتعذيب والقتل.
عندما لا يتمكن المدعون العامون من الوصول إلى مسرح الجريمة، يتعين عليهم الإعتماد على منظمات المجتمع المدني في تقديم وثائق موثوقة، بما في ذلك السجلات الحكومية الرسمية المهربة من سوريا، فضلاً عن شهادات الضحايا والمطلعين. وكما هو الحال في أي محاكمة عادلة، فإن شهادات الشهود الموثوقة وذات المصداقية كانت حاسمة للغاية في محاكمة كوبلنز.
على الرغم من أن هذه الملاحقات القضائية على الجرائم الوحشية المرتكبة في سوريا تجري في الخارج، (في المحاكم الأوروبية في الوقت الحالي) إلا أن دور السوريين أنفسهم في تسهيلها يظهر في المحاكمات، إلى حد ما، من قبل السوريين ومن أجل السوريين.
وفي حين قد يزعم المنتقدون أن محاكمات الولاية القضائية العالمية لن تتم إلا عندما يشكل المشتبه به تهديداً للأمن العام في الدولة التي تجري المحاكمة، أو عندما ترى الدول مزايا سياسية أخرى في مقاضاة هذه الجرائم، أثبتت محاكمة كوبلنز عكس ذلك. وشدد المدعون العامون وغيرهم من المسؤولين على أن ألمانيا يجب ألا تكون ملاذاً آمناً لأي مرتكب للجرائم الدولية – سواء كانوا أعضاء في جماعات إرهابية ربما تجند مقاتلين جدداً، أو مسؤولون حكوميون سابقون منفصلون عن صاحب العمل السابق. كما أكد المدعون العامون الألمان أن الملاحقات القضائية الخاضعة للولاية القضائية العالمية هي نتيجة لماضي ألمانيا، فيما يتعلق بجرائم الحرب والتعامل القضائي مع مرتكبي الفظائع الجماعية.
وبالتالي، فإن محاكمات الإختصاص القضائي العالمي لا تمثل العدالة التي تفرضها دول أجنبية على السوريين، كما يزعم بعض المنتقدين. محاكمات مثل تلك التي جرت في كوبلنز هي بالأحرى عدالة ومساءلة يدعمها السوريون وتجري للسوريين. أيد العديد من المدعين في محاكمة كوبلنز هذا الرأي، بالقول إن مشاركتهم في المحاكمة كانت أيضاً وسيلة لتمثيل العديد من السوريين الآخرين الذين لم يحالفهم الحظ مثلهم ولا يزالون رهن الإحتجاز الحكومي أو قتلوا في أعمال عنف تنفذها الدولة في سوريا.
كانت كوبلنز، باعتبارها المحاكمة الأولى ضد مسؤولين سوريين سابقين متهمين بالتعذيب كجريمة ضد الإنسانية، علامة مهمة على أن الجناة من جميع أطراف الحرب الأهلية في سوريا، بما في ذلك أكبر مرتكب لها، الحكومة السورية، يمكن مساءلتهم.
ورحب المراقبون وأطراف المحاكمة بالحكم الصادر ضد رسلان – والنتيجة القضائية بأن الحكومة السورية ترتكب جرائم ضد الإنسانية – كعلامة للمجتمع الدولي ضد التطبيع مع حكومة الأسد والترحيل الوشيك للاجئين السوريين إلى بلد ارتكبت فيه السلطات جرائم موثقة ضد الإنسانية.
وقد يكون لمحاكمة كوبلنز أيضاً آثاراً إيجابية على الجهود السورية الرامية إلى تحقيق العدالة والمساءلة في بلدان أوروبية أخرى. وقد حكمت محكمة النقض الفرنسية مؤخراً بأن فرنسا ليس لها اختصاص قضائي على الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها مواطنون غير فرنسيين في سوريا، مما يحد من نطاق قضايا الإختصاص القضائي العالمي التي يمكن النظر فيها في المحاكم الفرنسية. أسوة بألمانيا ومحاكمة كوبلنز، ينبغي على فرنسا تطبيق تشريعات ذات صلة لتوسيع نطاق ولايتها القضائية بشأن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
ومع ذلك، لا تزال هناك حدود واضحة لهذه الأنواع من المحاكمات. ولا يكون لحكم المحكمة الإقليمية العليا في ألمانيا، حتى عندما تؤكده محكمة العدل الإتحادية في البلاد عند الإستئناف أي آثار ملزمة قانوناً على أي دولة أخرى. ومن المؤسف أن تأثيرها الرادع على الحكومة السورية ومؤيديها يقترب أيضاً من الصفر. من المؤكد أن الحكومة السورية لن تغير ممارساتها للتعذيب التي دامت عقداً من الزمن وتتخلى عن أجهزة الإستخبارات الموسعة التي تقمع المجتمع المدني وأي نوع من المعارضة، وذلك ببساطة لأن محكمة ألمانية وجدت أنها ساهمت في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وبما أن محاكمة كوبلنز جرت ضد ضابط سابق ذا رتبة متدنية، إياد الغريب، وعقيد سابق ذا رتبة متوسطة، رسلان، أكد رئيس المحكمة صراحة أن "النظام السوري لم يكن هو الذي جلس على كرسي الإتهام في هذه المحاكمة". وأشار القاضي إلى أن محاكمة رسلان "لم تتناول سوى مساهمته الشخصية ومسؤوليته عن الجرائم الموجهة إليه". ولا يزال المسؤولون عن الجرائم في السلطة أو طليقين. ليس هناك ما يشير إلى أن الحكومات يمكن أن تنفذ أوامر الإعتقال الدولي ضد مسؤولين كبار في الحكومة السورية في المستقبل القريب.
وفي حين لا ينبغي المبالغة في تقدير أثر محاكمة كوبلنز، إلا أنها خطوة صغيرة وأولى نحو تحقيق العدالة والمساءلة للسوريين. إن ثروة الوثائق التي حصلت عليها منظمات المجتمع المدني وآليات التحقيق الدولية والمدعون العامون المحليون وتقاسمها، فضلا عن الموارد الهائلة التي يضعها المسؤولون في بلدان مثل ألمانيا لمحاكمة الجرائم المرتكبة في سوريا، هي علامة إيجابية للضحايا السوريين. ويجري من الناحية القضائية معالجة انتهاكات مختلفة حصلت خلال الإنتفاضة الشعبية التي تحولت إلى حرب أهلية في سوريا، ويجري الآن الإستماع إلى قصص السوريين والإعتراف بمعاناتهم في محاكمات متتالية في كوبلنز وفرانكفورت.
ولكن في غياب آلية قضائية دولية دائمة مثل المحكمة الجنائية الدولية، فإن القضايا المرفوعة ضد الجناة السوريين من ذوي الرتب الدنيا والمتوسطة هي وحدها التي لديها أي احتمالات للوصول إلى مرحلة المحاكمة، حيث لا يمكن للدول التي تقوم بالملاحقة القضائية إلا القبض على هؤلاء المتهمين فعلياً. سيبقى الأشخاص الأكثر مسؤولية عن الجرائم التي ارتكبتها الحكومة السورية ضد شعبها بعيدين عن متناول العدالة في الوقت الراهن.