صحفي وكاتب سوري مقيم في تركيا
في مادتي الأولى، التي كتبتها منذ سنين تبدو الآن بعيدة، تحدثت عن امتناني للنظارات الشمسية لأنها تتقن إخفاء مشاعري وتكبح تمرد عيوني وردات فعلها عما تراه، وكتبت عن أمي وعيدها وعن فلسطين ولبنان والعراق.
ثم توقفت واستدرت باتجاه فضاء الإنترنت، وهكذا وتحت اسم وهمي بدلت النظارات الشمسية بنظارات طبية، وسمحت لعيوني بالرؤية بحرية دون تعتيم أو فلترة، وتركت ما لفلسطين لفلسطين وأعدت ما لسوريا لسوريا، فلم يعد الظلم والقتل والتهجير والاعتقال وظلام السجون حكراً على إسرائيل، ولم أعد مضطراً لإضافة إسرائيل عند كل جملة عن اغتيال الحلم وازدهار الفساد وتغلغل القهر، ففي سوريا من كل ذلك ما يفوق إسرائيل بمراحل.
نعمة الاسم الوهمي المدّعم بـ "VPN" لم تدم طويلاً، فبقدرة قادر بدأ أصحاب المواقع السورية، على قلتها، بالشكوى وعدم النشر، لتكون الطامة بوضع شروط للنشر، فاحترام "المقامات" أصبح الزامياً وبطبيعة الحال احترام النظام من احترام المقام، وبنفس الوقت الكتابة في المواقع غير السورية عن سوريا وغيرها من قضايا فكرية واجتماعية تشترط فحص الدم لمعرفة إن كان إسلامياً أم علمانياً، يسارياً أم يمينياً.
ومع الركون للحالة التوافقية من جديد وعودة، يشوبها الكثير من الملل وخيبة الأمل، للغة المواربة والتلاعب بعقل الرقيب لتهريب فكرة او جملة وأحياناً كلمة، ظهر فيسبوك، وقبل فهم الوافد الجديد بشكل كامل قامت الثورة في سوريا فتغير كل شيء، أو هكذا توقعت وتوقع كثر غيري.
انطلقت كما انطلق غيري من جديد، فغضبت وحزنت، شتمت القتلة ورثيت شهداء وطني، أيقظت أحلامي من غفوتها وانتشلت الأمل من القاع الذي دفنته به منذ زمن أغبر مضى، وما عدت بحاجة لاسم وهمي لا سيما بعد أن تحولت للاجئ، وهكذا أزيلت فجأة من أمامي كل العوائق والمحظورات.. أو هكذا ظننت.
قدم فيسبوك فرصة ذهبية للحصول على الخبر بشكل آني، حيث قدم آلاف الصور والفيديوهات والشهادات العينية، وأماط اللثام عن اتفاق سري هنا وعن صفقة هناك، ولكن، وإلى جانب هذا النشاط الإعلامي المتميز والذي خاطر الكثيرون بحياتهم لتوثيق ما يجري في سوريا في مواجهة آلة النظام الدعائية، كانت ثمة حالة تتضخم على صفحات الموقع الأزرق، فبدأت تتشكل الجيوش، وانتقلت عدوى الأحزاب إليه، وعاد الرفاق والإخوان لممارسة ما يجيدونه من تكفير وتخوين والتراشق بمفردات الرجعي والمتخلف والعلماني والملحد، ولكن مافات هؤلاء ان الساحة لم تعد حصراً عليهم وفي صالوناتهم واجتماعاتهم المغلقة كما كان في عصر مضى، مع فيسبوك أصبح متاحاً للجميع أن يشارك.
وإلى جانب الغزوة الميمونة للغة التناحر الحزبي والفكري ما بين يسار ويمين للساحة الزرقاء، كانت هناك الجيوش الالكترونية الكبرى لروسيا وإيران واستراتيجيتهم في ما يسمى بـ "حروب مواقع التواصل الاجتماعي"، وهكذا بدأ التشكيك بكل خبر وإصدار عشرات الروايات لحماية حربهم على سوريا بالإضافة لاستهداف صفحات وأشخاص بعينهم، كان النظام يعمل ما يجيد عمله، بالأحرى العمل الوحيد الذي يجيده، فبين تهديد ووعيد عابر للمحيطات والحدود وما بين مداهمات لأهالي بعض منتقديه كان يسعى من جديد لتكميم الأفواه، ببساطة عادت كل تلك الكوابيس من جديد.
ميغ وسوخوي تقذف الصواريخ والبراميل من السماء ودماء مسفوكة على الأرض، مخيمات ولاجئين يتقاذفهم الخوف من مستقبل مجهول مع كل تصريح عنصري شعبوي، والمساحة الزرقاء، التي من المفترض أنها البديل البعيد عن سيطرة مقص الرقيب وعملاء المخابرات، أصبحت انعكاساً لكل ذلك، وبدلاً من المداهمات والاعتقال على الحواجز أصبحت حملات التشويه هي السلاح الأمضى.
نعم تغيرت بعض الأشياء ولكن هناك أشياء أيضاً لم تتغير، نعم تغيرت قوانين اللعبة لكن جوهر الصراع مازال كما هو، فالشرق الكئيب مازال كئيباً تحت سلطة المخابرات والفساد، الذي تغير أنه أصبح للفساد مواقع الكترونية وصفحات على فيسبوك، وتم إضافة فرع جديد للمخابرات، في هجوم مباشر على المساحة التي اعتقدها الجميع خارجة عن السلطة وعبثها، فعادت الملاحقة عبر التهديد حيناً والتشهير أحياناً، ولكن في هذه المرة هناك شيء تغير وهناك فرصة، فالعيون التي اعتادت الضوء غير المفلتر ما عادت قادرة على التكيف مع سجن النظارات الشمسية من جديد.