المقال نُشر اولاً في اميركان بروسبكت، بتاريخ ٢٠٢١/٤/١٥
قبل ثلاثين عامًا، أخذنا أنا وبعض زملائي استراحة من دراستنا في هارفرد وانطلقنا في مهمة وضعناها لأنفسنا. سافرنا إلى العراق للتحقيق في الدمار الحقيقي الناجم عن قصف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
لم نكن نعلم أن حرب عام 1991 ستكون جزءًا من مغامرات أمريكا في العراق، والتي تسمى الآن حرب الخليج الأولى، وأنه ستليها عقود من دمار أكبر بكثير: 22 عامًا من العقوبات والضربات الجوية، وحرب الخليج الثانية، والاحتلال العسكري، وما أصبح الآن مجرد حرب أخرى من حروبنا العالمية التي لا نهاية لها.
واليوم، لا تزال البلاد في حالة من الفوضى، والشعب العراقي لا يزال يتحمل أعباء ذلك. فيما لا يمل مروّجوا الإمبراطورية الأمريكية واليأس العراقي أبدًا، من تقديم مبررات جديدة لمنح الولايات المتحدة دفعة أخرى لمحاولة الإصلاح.
ولكن حان الوقت حقًا لتنحي الولايات المتحدة جانبًا، فقد كانت تعد بفعل ذلك لفترة طويلة جدًا. وبالنسبة لأولئك الذين يركزون على رفاهية الشعب العراقي، ولكنهم ما زالوا يسعون، على الرغم من الأدلة الدامغة على مدى ثلاثة عقود، لطلب المساعدة من حكومة الولايات المتحدة، لقد حان الوقت للتصالح مع حقيقة أن السياسات الأمريكية لم تساعد الشعب العراقي أبدًا.
عندما وصلنا إلى أرض العراق، لم يكن من الصعب على مجموعتنا المكونة من عشرة طلاب وخبراء في القانون والصحة العامة اكتشاف أن مزاعم الخبراء العسكريين بأن "القنابل الذكية" الجديدة وقتها قتلت فقط حوالي 2,000 مدني خلال حرب العراق عام 1991، كانت مجرد خدعة. ما اكتشفناه هو أنه بعيدًا عن خوضنا "حربًا نظيفة"، كما ذكرت وسائل الإعلام، لم تستخدم الولايات المتحدة مئات الآلاف من الألغام الأرضية والألغام المضادة للأفراد و 24.5 مليون قنبلة عنقودية فحسب، بل استهدفت عمدًا 17 من أصل 20 محطة لتوليد الكهرباء في البلاد، والتي تفاخرت وزارة الدفاع فيما بعد بأنها "نجاح كبير".
قضت هذه الهجمات فعليًا على أي قدرة لنظام الطاقة الوطني العراقي، على توليد أو نقل الكهرباء عن طريق تقليل قدرة التوليد إلى أقل من 300 ميغاواط (وهو أقل من 9,500 واط بحسب ما كان عليه الوضع قبل الحرب).
وتركت هذه الهجمات العراقيين غير قادرين على تنقية وتوزيع المياه النظيفة، وإدارة شبكات الصرف الصحي، أو تشغيل المستشفيات.
وكشف تحقيقنا أن قصف الولايات المتحدة للعراق، قد تسبب في دوامة هائلة من وفيات الأطفال، ويرجع ذلك أساسًا إلى الأمراض المنقولة عن طريق المياه والناجمة عن الهجمات غير القانونية على البنية التحتية للكهرباء في العراق.
وبشكل غير مفاجئ، رد الجيش الأمريكي على ما تم الكشف عنه من خلال التشكيك في صحة النتائج التي توصلنا إليها. كان هذا الأمر قبل عصر الإنترنت وصحافة المواطنين التي تحركها وسائل التواصل الاجتماعي والتي يمكن أن تكشف كل ضربة للحرب وكل قتيل.
لم يكن هناك صحفي مستقل على الأرض في بغداد باستثناء مراسل واحد هو بيتر أرنيت. كانت كلمتنا فقط تقف أمام الجيش الأمريكي.
عدنا إلى العراق في أغسطس 1991، لكن هذه المرة مع فريق مكون من 100 محقق لإجراء سلسلة من الدراسات واسعة النطاق حول تأثير الحرب، بما في ذلك دراسة حول وفيات الرضع على مستوى البلاد تشمل 10,000 أسرة، حيث كانت النتائج صادمة بشكل أكبر: في أقل من عام، وبسبب الآثار المركبة للعقوبات، وصل معدل وفيات الرضع إلى 47,000 حالة وفاة زائدة.
ولكن حتى بعد انسحاب العراق من الكويت كجزء من وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب الخليج الأولى، ظلت العقوبات الأمريكية سارية، وهذه المرة بمطالب جديدة مرتبطة بتدمير العراق "لأسلحة الدمار الشامل" والصواريخ الباليستية طويلة المدى.
أدى ذلك إلى توسيع التدخل العسكري الأمريكي: لقد تحولت الحرب من عمل مصرّح به من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت، إلى قيام جورج بوش الأب بحثّ المجتمعات الكردية والشيعية في البلاد على التمرد والإطاحة بصدام حسين،.
أدى هذا إلى اندلاع قتال جديد في جميع أنحاء البلاد، ونزوح مئات الآلاف داخليًا، وإنشاء منطقة "حظر طيران" فرضتها الولايات المتحدة في نهاية المطاف على ما أصبح رسميًا في عام 1992 إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي في شمال البلاد.
في عام 1996، عادت مجموعتنا، التي أصبحت الآن مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى العراق مع ليزلي ستال وطاقم برنامجها "60 دقيقة"، لإظهار الدمار الذي خلفته خمس سنوات من العقوبات الأمريكية على المدنيين العراقيين.
كانت خطة "النفط مقابل الغذاء" الفاسدة التي أطلقتها الأمم المتحدة والتي صُممت للتغلب على الأثر الضار للعقوبات من خلال السماح للعراق ببيع نفطه مقابل الغذاء فقط، فاشلة.
في ذلك الوقت، كانت هناك العديد من الدراسات الاستقصائية التي حددت حصيلة وفيات تصل إلى 500,000 حالة وفاة بين الأطفال في البلاد.
سألت ستال وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت، عما إذا كانت تعتقد أن تكلفة الأطفال القتلى في العراق، الذين كانوا "أكثر ممن ماتوا في هيروشيما"، تستحق ثمن العقوبات، حيث كان ردها الأسطوري: "أعتقد أن هذا خيار صعب جدًا، لكن الثمن—نعتقد أن الثمن يستحق ذلك."
على الرغم من الضجة التي صاحبت تلك الإجراءات، استمر نظام العقوبات والتفتيش على الأسلحة ساريًا حتى الغزو الأمريكي في عام 2003. وسمح ذلك الوضع لجورج بوش الإبن باتهام العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل، عن طريق أدلة زائفة بوجود مواد لتخصيب "الكعكة الصفراء" من اليورانيوم، وكان بمثابة أحد مبررات إدارته المختلفة لخوض الحرب.
لكن هذه المرة، فشلت الولايات المتحدة في الحصول على تفويض من الأمم المتحدة، وأعلنت أنها ستتحرك ضد العراق مع عدد قليل من الحلفاء الخاضعين لها، "تحالف الراغبين."
ما أنتجته الحرب فعلًا هو إراقة الدماء الشعبية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي والبنتاغون. ومن المفارقات أن أسامة بن لادن قد استشهد بوفيات الأطفال العراقيين بسبب العقوبات كأحد مبررات تنظيم القاعدة لشن الهجوم.
ومرة أخرى، عادت مجموعتنا إلى العراق، قبل الحرب في يناير/كانون الثاني 2003 مباشرة، وهذه المرة في محاولة لجلب الحائزين على جائزة نوبل للسلام نيلسون مانديلا وجيمي كارتر إلى العراق للتفاوض على حل للصراع في اللحظات الأخيرة.
لم نفلح في ذلك. وبدلًا من ذلك، سار بوش في كارثة الحرب الأمريكية، بدعم قوي من الحزبين، وسقط ديمقراطيون بارزون وأظهروا نزعاتهم نحو الحروب، فقد صوّت السيناتور في ذلك الوقت جو بايدن، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لصالح الحرب، وفعلت نفس الأمر السيناتور في ذلك الوقت هيلاري كلينتون، مع جلسات استماع مخطط لها، دامت أقل من يومين، صمّمها توني بلينكين، مدير لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ آنذاك.
سرعان ما أصبحت الحرب محمّلة بمهمة مريبة أكثر مما كان عليه الحال في حرب العراق السابقة: الإطاحة بصدام حسين وتفكيك مؤسسات الحكومة العراقية، واحتلال دام عامين مليء بسجون التعذيب سيئة السمعة والمقاولين العسكريين الفاسدين، ووضع حكومة منتقاة يهيمن عليها الشيعة وتتأثر بإيران وتواجه ميليشيات سنية مقاومة.
وعززت الحرب والنظام الحكومي الذي أسسته الولايات المتحدة فكرة أن الدولة منقسمة بين السنة والشيعة.
حاولت الإدارات الطائفية الفاسدة والوحشية المتعاقبة قمع انتفاضات جديدة قام بها العراقيون المتضررون من حكمهم، ولا سيما في المحافظات السنية، مدعومة بقوات عسكرية أمريكية دائمة توفر الدعم العسكري "الأساسي" لبقائهم في السلطة.
وأنفقت الولايات المتحدة عشرات المليارات على المستشارين للحكومات العراقية الجديدة، وقدمت المشورة بشأن صياغة الدستور والحوكمة وإعادة الإعمار وحتى بالطبع إعادة بناء المحطات الكهربائية التي دمرناها في عام 1991.
تقدر تكلفة الحرب وعواقبها بـ 2 تريليون دولار. وتم إنفاق الكثير من الأموال، إن لم يكن معظمها، على شكل مساعدات عسكرية لتعزيز قوات الأمن العراقية.
وحتى بعد "الانسحاب" الرسمي للقوات الأمريكية في عام 2011 في عهد الرئيس أوباما، بقي أكثر من 5,000 متعهد دفاعي و 20,000 موظف في السفارة والقنصلية، وجميعهم يتمتعون بحصانة دبلوماسية، في البلاد لإنفاق أكثر من 10 مليارات دولار في صفقات أسلحة و "تدريب وتقديم المشورة" لقوات الأمن العراقية.
وواصلت الولايات المتحدة أيضًا تحديد مسار النتائج السياسية المصيرية للبلاد، والأكثر كارثية مع نائب الرئيس آنذاك جو بايدن الذي قلب الموازين لضمان إعادة انتخاب نوري المالكي كرئيس للوزراء، على الرغم من أجراس التحذير من أن المالكي أصبح طائفيًا وعنيفًا وسلطويًا بشكل متزايد.
للأسف، اتضح أن قوات الأمن العراقية بعد الاحتلال غير عادلة ووحشية مثل سابقاتها، كما تشهد بذلك أكوام من تقارير حقوق الإنسان.
في السابق، كان المسؤولون الأمنيون العراقيون أو الكرديون يشعرون بالحرج عندما يتم مواجهتهم بأدلة التعذيب والإعدامات الجماعية والمذابح وحرق المنازل وتدمير القرى، ما يجعلهم في موازاة الطاغية الذي عانوا هم أنفسهم منه.
لكن مع مرور الوقت، تلاشى العار ولم يبق سوى القمع. بحلول عام 2013، بعد المذابح المتعددة التي ارتكبتها حكومة المالكي بحق المتظاهرين السنة، قُمت بالتحذير من أن الحرب الأهلية باتت وشيكة.
في هذا السياق ظهر تنظيم داعش كقوة مهيمنة، ووعد أبناء المحافظات السنية بحكومة دينية جديدة تحافظ على مصالحهم كسُنة وليس كعراقيين. ولم يكن من قبيل المصادفة أنهم تمكنوا من السيطرة على مثل هذه الرقعة الواسعة من العراق.
لم يكن الأمر يتعلق بضعف القوات العسكرية العراقية والكردية، التي هربت "حرفيًا" بدلًا من الدفاع عن أراضي البلاد. بل كان هناك الكثير من العراقيين السُنة الذين لم يعد بمقدورهم التمييز بين الصالح والطالح، تحت وطأة عقد من القمع والإرهاب في ظل القيادة الشيعية.
وفي هذا السياق، عادت الولايات المتحدة، التي تقود هذه المرة تحالفًا عالميًا جديدًا، إلى الظهور مرة أخرى للقتال مجددًا في العراق، وهزمت المجموعة الصغيرة نسبيًا من مقاتلي داعش، لكنها حوّلت أجزاء كبيرة من الموصل، التي كانت عاصمة داعش، إلى أنقاض.
منذ هزيمة تنظيم داعش، بالكاد سيطرت الإدارات العراقية المتعاقبة على البلاد، ولم تكن ماهرة على ما يبدو إلا في القمع العنيف للمتظاهرين الشباب، الشيعة والسنة، الذين لا يزالون يظهرون في جميع أنحاء البلاد، والذين سئموا من عقود من الحكم الفاشل.
وعلى الرغم من ثروته النفطية، لا يزال العراق فقيرًا، ويعاني من أنظمة صحية وتعليمية سيئة، كانت ذات يوم جوهرة الشرق الأوسط. أصبحت الدولة محطمة، وليس هناك حقًا سبب للاعتقاد بأنها ستظهر مرة أخرى كدولة ذات سيادة ومستقرة وموحدة بالفعل.
لكن القوات الأمريكية لا تزال موجودة، وهي تتعرض الآن لهجمات متبادلة لا نهاية لها مع القوات شبه العسكرية المتحالفة مع إيران والتي تخضع رسميًا لسيطرة وزارة الدفاع العراقية لكنها تعهدت بمواصلة مهاجمة القوات الأمريكية حتى مغادرتها.
ان تبرير حكومتنا للإبقاء على القوات في العراق، لم يتظاهر حتى بأنه يتعلق بمساعدة الشعب العراقي، وإنما "للحد من النفوذ الإيراني" في البلاد، والذي تجلى مؤخرًا في اغتيالنا (غير القانوني) في بغداد للجنرال الإيراني قاسم سليماني ومجموعة من شركائه الإيرانيين والعراقيين في عام 2020. لم يكن لديهم هدف عسكري محدد، لكنهم نجحوا في تعريض العراقيين للخطر، وتحويل بلادهم إلى ساحة نزاع نشطة لحربنا بالوكالة مع إيران. وليس لديهم أي فائدة عملية كبيرة أيضًا، إنهم يُظهرون رمزًا سياسيًا للسيطرة الأمريكية في العراق أكثر من أي شيء آخر.
على الرغم من تصويت البرلمان العراقي العام الماضي على مطالبة القوات الأمريكية بمغادرة البلاد، إلا أن إدارة بايدن لم تبدي موافقتها من حيث المبدأ على سحب القوات المقاتلة من البلاد إلا في هذا الشهر، لكنها رفضت في نفس الوقت تقديم جدول زمني وأصرت على بقاء بعض القوات في أدوار "تدريبية واستشارية."
يجب أن يقر الرئيس بايدن بأن الأداء في الماضي والحاضر يجب أن يكون مؤشرًا جيدًا للنتائج المستقبلية. أفضل ما يمكن للولايات المتحدة فعله الآن هو سحب ما تبقى من قواتها وإنهاء دعمها للأحزاب الطائفية التي تستمر في إبقاء البلاد منقسمة وغير فعالة.
قال الشباب العراقي كلمته: إنهم يرفضون سيطرة أي دولة أجنبية، سواء إيرانية أو أميركية. يجب أن نذعن لمطالبهم ونبتعد عن طريقهم. لقد تسببنا في أضرار بما فيه الكفاية.
سارة لي ويتسن
سارة لي ويتسن هي المديرة التنفيذية لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN). شغلت في السابق منصب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش من 2004 إلى 2020.
In Pictures
Photo Credits: MAYA ALLERUZZO/AP PHOTO