بصفتي فلسطينية ولدي عائلة في قطاع غزة، كانت الأشهر القليلة الماضية مليئة بالألم والقلق. وكأنني كنت في حالة اختناق طويلة وأنا أشاهد الأهوال تتكشف هناك. لقد طاردني تيار لا نهاية له من الصور المروعة من غزة، للعديد من الفلسطينيين بين أنقاض المنازل والمدارس والمستشفيات المدمرة—وهي الأماكن التي لجأوا إليها كمأوى وحماية ورعاية لإصاباتهم الناجمة عن القصف الإسرائيلي الشامل. كما لقي أكثر من 37,000 فلسطيني في غزة حتفهم بعنف وبصورة مروعة. وتُرك آخرون يصرخون طلبًا للمساعدة، متشبثين ببصيص من الأمل في أن تنتهي هذه الحرب وأن ينجوا بأعجوبة بطريقة أو بأخرى.
وفي وسط خراب غزة، كُتب على الأنقاض أسماء الأشخاص الذين كانوا في المباني المدمرة عندما انهارت الجدران وانهارت الأرضيات، ولا تزال أجسادهم محاصرة تحت الأنقاض.
إذا كان لا بد لي من أن أموت
فلا بد أن تعيشوا
لتحكوا قصتي
هذه الأسطر الافتتاحية من قصيدة رفعت العرير المرعبة "إذا كان لا بد لي من أن أموت" يتردد صداها يوميًا. لقد قُتل الكاتب والشاعر والأستاذ والناشط الفلسطيني مع العديد من أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية في غزة في ديسمبر/كانون الأول الماضي. بالنسبة لي، هذه الأسطر هي نداء حاشد للشهادة والتحدث ضد تدمير إسرائيل للحياة في غزة.
ابنة خالي، عبير حمزة الخواجة، لا تزال في غزة. عندما استعادت الوصول إلى الإنترنت مؤخرًا، بدأت تروي محنتها المروعة في تجنب الموت تحت حملة قصف إسرائيلية دمرت أحد أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض—تدمير المدينة، في غضون بضعة أشهر فقط، يطابق القصف الشامل لسنوات طويلة للمدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
رأيتُ عبير آخر مرة خلال صيف مثالي قضيته في غزة. كان ذلك في عام 1995، وكانت طفلة. أتذكر أنني دُهشت من مدى جمالها. كانت لديها عينان بنيتان كبيرتان جميلتان، مليئة بالدهشة والفضول. لقد أحببت أن أحملها وأراقبها وهي تزحف، وهي تكتشف محيطها، بينما كنت أحاول أن أحافظ على سلامتها.
كبُرت عبير وأصبحت معلمة في مجال تعليم الطفولة المبكرة، ولديها اهتمام كبير بعلم نفس الطفل. قبل الهجوم العسكري غير المسبوق الذي شنته إسرائيل ردًا على الهجوم الذي قادته حماس على جنوب إسرائيل، كانت تستمتع بقراءة الكتب لطلابها الصغار وتعليمهم الصواب من الخطأ. لقد ملأها رؤيتهم وهم يزدهرون بالبهجة.
كان منزلها في مدينة غزة، ولكن القوات الإسرائيلية دمرته في الأسابيع الأولى من الحرب في أكتوبر/تشرين الأول. وهي وعائلتها الآن في دير البلح، وهي مدينة تقع في الجزء الأوسط من الجيب المحاصر، حيث لجأوا إلى أقارب.
فيما يلي مقتطفات من مذكراتها، التي عهدت إليّ بها. وهي تشمل مراسلاتها معي. وقد منحتني الإذن بمشاركتها. وكما قالت لي، "سأكون ممتنة لو أوصلت أصواتنا إلى العالم".
لقد كانت لنا حياة وأحلام. لا يوجد سوى الدمار الآن.
- عبير حمزة الخواجة
14 أبريل/نيسان 2024
بدأ الأمر في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. في ذلك اليوم بدأت أصوات الرعد الثقيلة تتساقط على رؤوسنا كالمطر. لم نغادر المنزل إلا بعد أسبوع، عندما اشتد القصف وزاد تدمير المنازل المجاورة لنا. لم يحمل أي منا الكثير، فقط حقيبة شخصية ووثائقنا الرسمية. في البداية، اعتقدنا أننا سنعود إلى المنزل بعد أسبوع وأن الوضع السائد لن يدوم طويلًا. غادرنا دون أي فكرة عما يلوح في الأفق وما قد يحدث لحارة الشيخ رضوان حيث كنا نعيش، والتي تم إخلاؤها بسرعة. في الليلة الأولى، بحثنا عن مأوى في مدرسة. كانت ليلة بلا نوم وكان الخوف من المجهول يلوح في الأفق.
كان القصف متواصلًا، فانتقلنا إلى مدرسة أخرى. سرنا نحن وغيرنا من النازحين في ظلام دامس، تحت أصوات الصواريخ العالية، والكلاب الضالة تلاحقنا. لم نكن نعرف ما سيكون مصيرنا، حيث وجدنا أنفسنا في محيط غير مألوف. غمرنا الخوف والمعاناة.
في اليوم التالي، في فترة ما بعد الظهر، انتقلنا إلى منزل عمي، الذي كان مكتظًا بالفعل بأقارب آخرين. أنا وأمي وأختيّ الاثنتين حصلنا على غرفة. منذ ذلك اليوم وحتى الآن، حياتنا كلها في هذه الغرفة الواحدة. هل يمكنك أن تتخيل أن تصبح حياتك محصورة في غرفة واحدة؟
*
15 أبريل/نيسان 2024
لدي صورة لكِ، احتفظتُ بها منذ أن كنتُ طفلة. إنها من زيارتك لغزة. هذه الصورة، مثل بقية ذكرياتنا، تُركت في منزلنا. لا أعرف ما إذا كنا سنعود إلى هناك يومًا ما، أم أن هذا حلم بعيد. لا يوجد أمان في هذه المدينة المنعزلة.
لقد كانت لنا حياة وأحلام. ورغم أن قطاع غزة محاصر منذ فترة طويلة، إلا أنه الآن خراب كامل. لا يوجد سوى الدمار. لقد أصبح من الواضح أن أحلامنا قد لا تتحقق، مثل الحلم النهائي بزيارة القدس أو عكا على سبيل المثال. ولكن قبل ذلك، كنا قادرين على التمتع بمتع بسيطة: كنا نذهب إلى العمل في الصباح، كنا نستطيع تناول طعامنا المفضل، كنا نستطيع قراءة كتاب بهدوء. كنا نستطيع الاستمتاع بمشاهدة غروب الشمس أمام البحر الشاسع، وكان الناس يستطيعون اللعب مع أطفالهم. ثم كنا نستطيع العودة إلى عائلاتنا في نهاية كل ليلة إلى سرير دافئ، حيث كنا نستطيع الاستمتاع بمشروبنا المفضل، في سلام. اختفى هذا الأمان منذ تلك اللحظة، ويبدو أنه لن يعود أبدًا.
في الهجمات العسكرية الإسرائيلية السابقة على قطاع غزة، كان معظم الناس يمكثون في منازلهم. كنا نعاني حتما من الموت والدمار والقصف المتواصل، ولكن هذه المرة، الأمر ليس كذلك. إنه الفناء والتشريد والجوع. هذه المرة، لقد أخذوا أرواحنا حقًا.
لا يوجد أمان في هذه المدينة. تستيقظ خائفًا وتنام في رعب. لقد سرقوا أحلامنا وابتساماتنا. لقد سرقوا منا الحياة.
- عبير حمزة الخواجة
23 أبريل/نيسان 2024
آسفة لأنني لم أتمكن من الكتابة إليكِ. كان اليومان السابقان صعبين حيث اشتد القصف ليلًا ونهارًا هنا. لا يوجد أمان في هذه المدينة. تستيقظ خائفًا وتنام في رعب. لقد سرقوا أحلامنا وابتساماتنا. لقد سرقوا منا الحياة.
في الأيام السابقة، حلّقت عدد كبير من الطائرات فوق رؤوسنا بشكل مخيف، ما ينذر بمزيد من الوحشية في الأيام القادمة، خاصة إذا قرروا بالفعل غزو بقية القطاع. منذ البداية، لم يكن لدينا أي فكرة عن المكان الذي سنذهب إليه. لم يكن هناك مكان آمن هنا، ولا يزال الأمر كذلك.
كل يوم وخاصة كل صباح، نجهز حقيبة مهمة واحدة فقط لنأخذها إذا اضطررنا إلى الفرار مرة أخرى. هكذا تكون الحياة عندما ينزح الشخص مرارًا وتكرارًا.
ولكن عندما تموت، لا تأخذ معك أي شيء، فقط روحك. ثم ترحل إلى مكان آخر. في مثل هذه الحالة، أنت لا تهرب من الموت فحسب، لأن الموت هو أسهل شيء هنا، بل تهرب أيضًا من التشويه أو الإصابة أو فقدان أحد الأطراف أو حتى الدخول في غيبوبة قد يكون هناك شك في ما إذا كنت ستستيقظ منها أم لا.
نحن نعيش في حالة انتظار. هذا أسوأ من الموت. الانتظار يقتل بهجة الحياة.