DAWN’s experts are the driving force behind the organization’s mission and vision. Our experts complement our research work and bolster our advocacy efforts.

No posts found!

Read all the latest articles from the DAWN team of Experts and Contributors.

"بدونهن، لم أكن لأنجو". يوميات من سجن مصري للنساء

Avatar photo

سولافة مجدي صحفية مصرية ومدافعة عن حقوق الإنسان. سجينة سياسية سابقة في مصر، اعتقلت مع زوجها من 2019 إلى 2021

English

«كيف بدأ الخلق؟».. «وقت الصلاة يا بنات خلي ربنا يكرمنا!».. «قواعد العشق الأربعون»، جمل صغيرة ترمز لثلاث صديقات معتقلات بسجن النساء في مصر، حصلت اثنتين منهن على حريتهن، ولا تزال تقبع الثالثة خلف القضبان لتبدأ عامها الثالث وقت كتابة هذه السطور.

صديقات ثلاث تنتمي كل واحدة منهن لتيار مختلف، ولكل منهن قناعاتها وتوجهاتها السياسية وانتمائها الفكري، لكنهن اجتمعن على ذمة تهمة واحدة؛ الانتماء لجماعة إرهابية، وشاءت الأقدار أن يلتقين خلف سور واحد، لتبدأ الرحلة.

كان اللقاء الأول داخل زنزانة بسجن القناطر للنساء، التقت شمس التي تنتمي للتيار المدني بصديقتها دليلة المنتمية إلى ما يمكن تسميته بتيار الوسط الإسلامي (وكلا الاسمين اسم مستعار له قصة) وهن يغسلن ملابسهن داخل ساحة المرحاض وقت الظهيرة، تلاقت أعينهن خلسة، إذ كان من المحرم أن تتحدث السجينات السياسيات -حسب توصيف السجن– مع بعضهن البعض تحسبًا لأن تنشأ بينهن علاقة صداقة وتقارب في الآراء ومشاركة للموضوعات والأحاديث، إذ ربما يصل الأمر لإعلان -لا قدر الله- إلى تمرد حال تعرضهن لانتهاك ما، أو يعلن إضرابًا لا يتمناه ضابط الأمن المسؤول عن السجن والسجينات.

بدأت دليلة وشمس بتبادل الابتسامات خلسة بين الفينة والأخرى، كلما مررن أمام بعضهن البعض، بات اللقاء يتم في المرحاض أو في ساحة التريض؛ إذا تصادف خروج الأولى في وقت تريض الثانية (وهي مدة محددة بنحو ساعة واحدة في اليوم، على أن يقبعن طوال ٢٣ ساعة داخل الزنزانة) بزعم أنها ترغب في نشر ملابسها في الهواء، حيث كانت الأوامر أن تفصل بعض السجينات السياسيات عن زميلاتها حتى داخل الزنزانة، لأنها مسجلة لدى أمن السجن تحت مسمى «متخطرة» أي خطر على الأمن والسجينات! ولديها القدرة على التأثير على الآخرين وإثارة البلبلة.

بدأت الأحاديث تنساب تدريجيًا بيننا، أنا شمس، وصديقتي دليلة، تعرفنا على قضية كل منا من خلال جمل خاطفة أثناء مرورنا في طريقنا المعاكس لبعضنا في التريض:

  • اسمي دليلة، اختفيت ٧٠ يومًا في الأمن الوطني، وظهرت على قضية انتماء.
  • أنا شمس صحفية اختطفت من الشارع، رفقة زوجي وصديقًا آخرًا، كان من نصيبي تشريفة امتدت لـ ٢٤ ساعة، ثم ظهرت على قضية انتماء.

انتهى التعارف بابتسامة ممزوجة بشجن، ونظرات أعين لامعة تحت ضوء الشمس، لحظات كانت لنا بمثابة ساعات جميلة تمكنا خلالها من سماع كل منا لصوت الأخرى، وكان هذا تعارفًا كافيًا ومرضيًا.

عبرت دليلة ومن وراءها أنا باب الزنزانة الذي تمكث أمامه «مناوبات» أو «نبطشيات» الزنزانة (وهن أقدم السجينات، يتم تعينهن من قبل إدارة السجن) وثلاثة سجانات، لمراقبة تحركات كل سجينة، مررنا بساحة مستطيلة تسمى المطبخ تجتمع فيها السجينات كل صباح، تهرول هنا وهناك أكثر من مائة سجينة في آن واحد، يحاولن الانتهاء من تجهيز طعامهن قبل موعد إغلاق الباب في الثانية ظهرًا.

توجهت دليلة إلى فراشها لتمسك بالقرآن بين يديها الصغيرتين ناصعتي البياض، ذوات العروق البارزة، ووجه مشرب بالحمرة، وشعر ذهبي ناعم وقصير، ممسكة بنظارتها البيضاء، لتبحر في عالمها الخاص. تقرأ القرآن وتسبح، ثم تتناول أحد الكتب التي سمح بدخولها أثناء زيارة الأهل، لتنفصل كليًا عما يدور حولها لساعات وساعات، حتى إنها تنسى تناول الطعام أو التحرك من فراشها والانخراط مع الزميلات الأخريات. أثارت هذه التصرفات حفيظة واستياء البعض، ظنًا منهن أنها متعجرفة إلى حد ما، لكنه لم يكن يعلم ما الذي يدور بخلدها سواي… صداقة نادرة يخيم عليها الغرابة والصدق والمحبة الخالصة.

تنامى إلى علم المناوبة أن هناك صداقة تنشأ بيني وبين دليلة، حينها لم تتوان لثواني على العمل على تدمير تلك الصداقة، تسللت ذات ليلة إلى فراشها، ولم تعهد دليلة هذا الأمر من قبل المناوبة فهي تهاب إلى حد ما الاقتراب من السجينات السياسيات، إلا إذا أتت لها أوامرًا من قبل ضابط الأمن المكلف بتسلم تقارير المناوبات عن الزنازين، بدأت الحديث معها في موضوعات حول الاقتصاد والأعمال حيث كانت دليلة تعمل في هذا المجال، إلى أن وصل الحديث إليَّ لتطلع دليلة على السر الخطير: «شمس بتشتغل مع الأمن، وعليها مشاكل وحواليها شكوك، خلي بالك منها» لتفاجأ المناوبة برد دليلة عليها رافضة تصديق المناوبة ونهرتها بأدب جم، فرغم انتمائها، إلا أنها تشارك شمس الكثير من الأفكار والأهداف، مع وجود الفوارق في بعض وجهات النظر التي يمكن مناقشتها والتغاضي عنها، لتعود المناوبة أدراجها خالية الوفاض.

توطدت الصداقة بين دليلة وبيني، أصبحنا نقضي سويعات اليوم المسموح لنا فيها بالالتقاء سويًا، فنتريض ونتناول الطعام في مواعده المحددة… على فراش كل واحدة منا، نحتسي القهوة في تمام التاسعة كل صباح ومساء، نقوم بتحضيرها باستخدام علبة من الصفيح، كعلب الفول مثلًا، بعد شرائها من كافيتريا السجن بسعر مضاعف عن السوق خارج تلك الاسوار، حيث لم يكن مسموحًا بدخول تلك المعلبات للسجينات أثناء الزيارات، إذ لا يسمح إلا بدخول بعض العلب البلاستيكية، بزعم الخوف على حياة السجينات، لربما تقرر إحداهن الانتحار لأنها سئمت السجن!

تشاركنا الأفكار والضحكات، مناقشات حول كل كتاب ننتهي من قراءته، كان كتابنا المحبب والمقرب إلى أرواحنا هو «قواعد العشق الأربعون» واظبنا على قراءة هذا الكتاب مرارًا وتكرارًا، حتى باتت كل منا تحفظ الكثير من مقتطفات الأحاديث بين مولانا جلال الدين الرومي ورفيق روحه شمس الدين التبريزي عن ظهر قلب، قررت دليلة منذ ذلك الحين أن تلقبني «شمس» تيمنًا بالأخير، إذ وجدت في شمس ضالتها وصداقة صادقة لطالما بحثت عنها في الخارج، كما اعتادت أن تقول لي.

تصوير حسام الصياد

أما أنا فقد قررت أن أسميها دليلة، حيث كانت ولا تزال صديقة ومرآة ودليلًا في تلك الليالي الظلماء، كانت هي الضوء الذي أهتدي به في الخطى، واتخاذ القرارات والمثابرة والتصدي للانتهاكات التي واجهتها هناك.

مرت قرابة ثلاثة أشهر على صداقتنا، وذات يوم وصل إلى الزنزانة مجموعة من السجينات جرى توزيعهن على عدد من عنابر السجن كما هي العادة، يعرفن بـ «الإيراد الجديد» وهن مجموعة السجينات اللائي قد انتهت مدة إقامتهن بالزنازين المخصصة لاستقبال الوافدين إلى السجن، تلك الزنازين تعد أسوء ترانزيت يمكن لامرأة أن تمر عليه قبل أن تبدأ رحلتها في مجاهل السجن… من المفترض أن تمكث السجينة في الإيراد نحو 20 يومًا، لكن تلك المجموعة حظيت بحظ عثر، إذ أجبروا مع أكثر من ٧٠ سجينة، ما بين جنائيات وسياسيات على الإقامة في الإيراد نحو مائة يوم، والذي لا تزداد مساحة زنزانته عن أربعة امتار في أربعة أمتار، وبه مرحاض ذا باب خشبي مخوخ مليء بالثقوب، ولا سقف له، يفتقر إلى الخصوصية، ولا يسمح للسجينات باستخدامه إلا لقضاء الحاجة، إذ يحرمن الاستحمام قبل استئذان نبطشية الزنزانة، وقعن في تلك الفجوة الزمنية بالتزامن مع الإغلاق الذي حط على السجن والسجينات من حيث لا يحتسبن، من جراء جائحة فيروس كوفيد 19 وما أعلنته الدولة المصرية لكثير من البلدان حينها من تدابير احترازية، وعلى عكس المتوقع والمنطقي، لم تقرر السلطات إخلاء السجناء/ات بتدابير احترازية لحيلولة دون تحول السجون لبؤرة تفش للوباء، ولكن قررت أن تغلق السجون وتمنع الزيارات والمراسلات عن بعض السجينات السياسيات، وذلك ما حدث معي، إمعانًا في الإذلال، ونكاية في إذ قررت التعبير عن رفضي لهذا الإغلاق بالإضراب عن الطعام، في محاولة مني للضغط على الجهات المسؤولة أن تستمع لتلك الأصوات القابعة خلف القضبان، لكن دون جدوى.

يبدو أن القدر قرر أن يأتي لي ولدليلة بهدية غير متوقعة، فكان من نصيبنا السجينة صفا «اسم مستعار» فتاة مصرية لها من سمرة النيل ما يميز ملامحها وعيناها الأسودتين، اللاتي يملئهن الإصرار والجرأة، ترتدي خمارًا أبيضًا، مؤمنة أن صوتها ليس بعورة كما هو متعارف عليه لدى البعض من أنصار التيار الإسلامي، الذي كانت صفا تنتمي إليه.

لكنها كانت تنتمي إلى الجانب الذي يعتبر صوت المرأة ثورة، وهذا ما أدى بها لدفع ضريبة ما تؤمن به، حكم عليها بالسجن مدة عام كامل، إثر مشادة كلامية حول الأوضاع السياسية والاجتماعية مع أحد جيرانها المدافعين عن النظام المصري، وهنا وقعت في براثن الدعاية التي تبثها برامج التلفاز المصري والصحف القومية، ليل نهار، تحرض فيها المواطنين على الإبلاغ عن بعضهم البعض، حيث لم يكذب هذا الجار خبرًا، وأبلغ الجهات الأمنية عن جارته ذات الخمار، بحجة أنها إخوانية تسعي لزعزعة الأمن داخل الحي الذي تقطن فيه، وصدر الأمر باعتقالها، ولكونها محامية علمت بالأمر من قبل أحد الزملاء، فقررت الذهاب بمحض إرادتها لتسليم نفسها لترفع الأذى عن بيتها وأولادها الثلاث حتى لا يرون والدتهم وهي يقبض عليها، ولم يشفع لها قرارها بتسليم نفسها للمحكمة لدى القاضي، فيخفف الحكم أو يحكم مع إيقاف التنفيذ، لكن على العكس أمر بسجنها مدة عام، وترحيلها علي الفور لسجن النساء.

ذات صباح استيقظت الزنزانة على صوت عال وحاد النبرة، في مشادة كلامية بينها ويبن نبطشية الزنزانة:

  • أنا من حقي أحط شنطة هدومي في مكان تاني غير الفرشة اللي بنام عليها، واللي بتشاركني فيها مسجونة تانية… أنا محكوم ومن حقي فرشة لوحدي، لايحة السجن بتقول كده!
تصوير حسام الصياد

لفت هذا الصوت انتباهنا، أعجبت كل منا بثبات ودفاع ذات الخمار عن حقها المكفول وفقًا للائحة السجون، نظرنا إلى بعضنا البعض وبإيماءة وابتسامة خفية علمنا أن هناك ثالوث سيتكون في القريب داخل هذا المكان، كان ينتظر ذات الخمار ليكتمل.

في الباحة الخلفية للزنزانة كنا نجلس قبالة بعضنا البعض على زوج من الحجارة وما تبقى من أخشاب تركت في باحة التريض، نستمع لأغاني فيروز في الصباح، نتمايل على نغماتها كورقات الشجر في فصل الخريف، قبل أن تجبرنا دموعنا على الجلوس أرضًا، مثلما تتساقط ورقات الشجر التي ذبلت، كانت الباحة يستخدمها أيضًا بعض السجينات اللاتي يعملن في تنظيف حوش السجن، يجمعن الفضلات ثم يقمن بحملها على رؤوسهن وصولًا إلى الباب الخارجي المخصص لعربة نقل المهملات.

وفي أحيان أخرى كنا نجبر أقدامنا على الركض، في محاولة الانتصار على حالة تيبس العظام التي أصابتنا نتيجة المكوث لساعات طوال داخل زنزانة تغمرها الرطوبة وتفتقر للتدفئة طوال الوقت، حتى تمكن الصقيع من عظامنا، وبات ينخر بها لأشهر وأشهر.

واظبنا علي تلك العادات حتى تعرفت إلينا صفا، جمعتنا ساعة التريض في الصباح وقهوة المساء، والاستماع الى راديو إذاعة الأخبار والتي قلما حالفنا الحظ والتقط المذياع موجات محطة البي بي سي، تنتهي النشرة وتنتهي معها آخر رشفة من فنجان دليلة وفنجاني قبل أن نقلب الفنجان على الصحن البلاستيكي الأزرق، كنت أفضل الصحن الأزرق، أغطيه بالمحارم، فكان يشعرني بالتفاؤل والارتياح… أو هكذا اعتقد، وكلما رأتنا صديقتنا صفا نقرأ الفنجان كانت تنهرنا بطريقتها الودودة المعهودة، كنا نتقبل تعليقها بصدر رحب مصحوب بابتسامة يملؤها استنكار واستغراب لأنها لم تتمكن من استيعاب أننا نلهو بعض الشيء، وربما كنا نأمل لو استطعنا الاطلاع على الغيب، حيث ربما كنا لنختار هذا الجانب الثوري النقي مرة أخرى، لكن هل كنا لنختار ذلك المكان الموحش الذي أتاح لنا فرصة لقاء لم يخطر يومًا على بال أحد منا؟! نستمر في قراءة الفنجان، نضحك أوقاتًا ونبكي أوقاتًا أخرى، يتنازعنا الأمل والألم… لكننا كنا مصرين على أن نتغاضى عن أي آلام كي نستمر ونقاوم.

تنتهي المناوشة المعتادة، و"دليلة وصفا" يجلسن على فراشي، حيث كان الفراش المحبب لهن، إذ كانتا يشعرن وكأنهن في زيارة إلى بيت صديقة، حتى لو كان شعورًا وهميًا، خلقنه لأنفسهن للمقاومة.

كان فراشي دائمًا نظيفًا عطرًا، تكسوه ملاءة لونها أزرق بلون السماء، يتخللها بعض الورود الزهرية فاتحة اللون، وعلى جانبيه صنعت من بواقي الملابس المهترئة جيوبًا وضعت بها متعلقاتي الشخصية، وملابسي… على الجانب الآخر يوجد حبل من القماش الرفيع ممتد من أول الفراش لآخره، كنت أعلق ربطات الشعر الملونة ورسومات صغيري، ومسبحة صنعها لي زوجي، الذي كان يقبع هو الآخر في سجن الرجال، كنت دومًا أخفي لصديقاتي بعض الحلوى التي قلما سمحت بالدخول لي أثناء الزيارة، وكانوا دومًا يتظاهرن بأني فاجأتهن، لنضحك معًا. سمح لي في بعض الأحيان ان اعلق على حبل القماش ستار شفاف، كان يمنحنا القليل من الخصوصية التي لطالما افتقرنا إليها منذ اول لحظة داخل السكن، والحصول على جانب بسيط من الخصوصية انه امر لو تعلمون عظيم.

يبدأ النقاش حول آخر الأخبار ومحاولة تحليلها، تلاقت أفكارنا واصطدمت قناعة كل منا بقناعات الأخرى، وعلى فراش واحد خلف باب حديدي موصد محاط بسياج طولًا وعرضًا، ومع كل جلسة تجمعنا، تشرئب رقاب من حولنا من نبطشية العنبر وموالياتها، تفتح الأعين وتحاول أن تسترق الآذان السمع لمعرفة ما الذي بين هذا الثلاثي رغم اختلافاتهن في الانتماء السياسي، وكما هو معتاد لأمثالهن فليس من الممكن أن يتوافقن. ولكن ما كان يدور في خلد الصديقات الثلاثة يصعب على الآخرين فهمه، فقد جمعت بيننا صداقة فريدة من نوعها، لا تحدث إلا في الروايات، لكنها حدثت داخل زنزانة اجتمعنا فيها بقرار سجان واحد وتهمة واحدة، دون أن يدري سجاننا أنه قدم لنا معروفا، مقصرًا علينا رحلة البحث عن بعضنا البعض طوال عشر سنوات مضت، لينتهي بنا المطاف أخيرًا خلف باب موصد وحراس وأسوار.

في بداية الأمر كانت صفا تخشى التعامل مباشرة معي لربما أنتقدها لانتمائها السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وكما جرت العادة من أغلب هذا التيار أن يهاجم المنتمين للتيار المدني "مثلي" لأنهم من وجهة نظرهم تغاضوا عن الانتهاكات التي وقعت بحقهم في بعض الأحداث السياسية وعلى رأسها فض اعتصام رابعة العدوية، على الجانب الآخر لطالما تلقى مثيلات صفا الانتقاد من قبل المنتمين للتيار المدني والأكثر من قبل من ليس لديهم أي انتماء سياسي، لارتدائهن النقاب دون التحدث إليهن أو الاشتباك معهن للتعرف عليهن.

كان خوفنا من بعضنا البعض هو نقطة الالتقاء والتقارب بيننا، كانت المصارحة بيننا قوية، صارحتني صفا بمحاولتها البحث عنا كأطراف أخرى خارج السجن، لملء تلك الحلقة المفقودة بين التيارات السياسية الثلاثة المدني وتيار الوسط والإخوان المسلمين، لم ننكر مطلقًا وجود أطراف مشابهة كانوا يبحثون عن الطرف الآخر، لكن رفض تلك المحاولات من قبل البعض المتعصب فكريًا باعتبار أن كل طرف منهم هو الذي على صواب ويتوجب على الطرف الآخر أن يبدأ بالتراجع وتقديم التنازلات إرضاءً للطرف المتعصب لفكره، هؤلاء هم من ساهموا بشدة في قتل محاولات البعض للإصلاح وخلق الترابط بين الأطراف الثلاثة، وكان هذا أحد الدوافع القوية أن تصبح صداقتنا وطيدة وصادقة وفريدة في مكان وزمان لم يخطر على قلب بشر.

لم نكن نتوقع أن صداقتنا سوف تثير حفيظة البعض ممن حولنا، وأيضًا سلطات السجن، لكن ثلاثتنا لم نول اهتمامًا لمحاولات التشويه والتفرقة بيننا.

كنا نتشارك الملبس والمأكل، تشاركنا أحلام وآمال وآلام كثر، ثلاثتنا أمهات لأطفال تتراوح أعمارهم بين العامين والعشرين عامًا، كانت صفا تتحدث عن طفلها الرضيع، كانت تساورها الكثير من المخاوف أن ينبذها طفلها بعد أن غابت عنه دون سابق إنذار لمدة عام كامل، كانت تبكي وتضحك في آن واحد، كانت طيبة القلب، نقية تحب بعنف وتكره أيضًا بعنف، مواقفها دومًا واضحة ومحددة، دليلة كانت مستمعة جيدة طوال الوقت، بحكم عملها كسيدة أعمال ناجحة تقدم النصيحة والعون لصديقاتها ولكل من يلجأ إليها، كانت تتألم في صمت، تحدثني دوما عن مخاوفها ان يلقي أبنائها باللوم عليها لأنها لربما تسببت في تعطيل مسيرة حياتهم بعدما أصبحت سجينة الان، لا تبكي إلا وهي جالسة قبالتي، كانت تعتبرني نصفها الآخر، الصديقة التي لطالما بحثت عنها، أما أنا فكنت مع الأخريات أستمع وأقدم النصح، أحاول أن أهدئ من روع زميلاتي وبالأخص صديقتنا صفا.

كنت أحاول كبح عنفوانها وثورتها، كنت افضل عدم ذكر اسم صغيري داخل هذا المكان الموحش، كان دوما نقطة ضعفي، لطالما خشيت الانهيار امام المتربصين بي داخل السجن، فضلت ان أخبئ مشاعر الحنين والفقد لطفلي في اعماقي حتى ألقاه، لكنني كنت كثيرة الحديث مع دليلة فقط، وجدت فيها ضالتي، اهتديت مع دليلة إلى روحي، وللسكينة التي لطالما بحثت عنها في كل من مروا بي ومررت بهم طوال سنوات مضت، ولم أجد ما كنت أفتقر إليه إلا مع دليلة رغم اختلافنا الجذري في كثير من الآراء والانتماء السياسي، إلا أن المحبة الخالصة وتوافق ثلاثتنا على حب هذا الوطن كان كافيًا ومرضيًا لنا أن نتغاضى عن ذلك. كانت مناقشاتنا تتسم دومًا بالموضوعية والاحترام… قطعًا كان هناك انتقاد لبعض القرارات التي اتخذت من قبل كل تيار ينتمي إليه كل منا. في إحدى المناقشات طرأ على فكري توثيق تلك اللحظات الفارقة في حياتنا كصديقات هنا، أعجبت دليلة وصفا بالفكرة، كان لديهن ذات الرغبة ولكن دون أن تعلم أن كل منا سترحب بالأمر، تصارحن برغبتنا، ضحكنا معا، حيث باتت أفكارنا وخواطرنا وأحاديث الروح متشابهة لدينا.

وكما اعتدنا من صفا أن اندفاعها الثوري وعنفوانها هما المحركان لها دومًا، أبدت رغبتها البدء في تلك الرحلة، شعرت أنها رحلة ستغير المسار بعض الشيء ولكنها ستوطد علاقتنا أكثر، حينها تعاهدنا أن تستمر صداقتنا إلى الأبد، أفصحت صفا عما يدور بداخلها من مشاعر وأفكار تجاه وطنها وتجاهنا على طريقتها الخاصة، ابتسمت صفا وتنهدت، برقت عيناها وكأنها تستحضر شيئًا بعيدًا من أعماقها، أرى نفسي وسط حشود الميدان، أشم رائحة عطرة لمتظاهرين، كنت أبحث عن الأطراف الأخرى لشعوري الدائم أن بيننا شيء مشترك لابد أن يبقى، وأنه يتوجب عليَّ أن أصلح من الصورة المغلوطة المأخوذة عني كـ «إخوان مسلمين» لدى أصحاب التيارات الأخرى خاصة التيار المدني.

تناولت رشفة من كوب الشاي، ونظرت إلينا وكأنها ترغب في تأكيد كلامها الذي ستفصح عنه بكل حواسها: السجن غير نظرتي عن أشياء كثيرة، السجن فرض واقع يستحيل الهرب منه، بعدما أصبحنا جميعًا داخل ذات الزنزانة مع بعضنا البعض، يا إما نساند بعض ونتحد أمام الطرف الآخر (السجان) أو نترك نفسنا لانطباعاتنا السيئة تجعل منا أدوات في يد السجان لاستخدامنا ضد بعضنا.

بدأت نظرتي تختلف لأصحاب التيارات الأخرى، حاولت إبعاد سوء الظن أو تفسير آراءهم من وجهة نظر مغلوطة، وكنت أعلم أن بعض المنتمين للتيار المدني يراني بصورة خاطئة كشخص ينتمي إلى الإخوان المسلمين، كان حتمًا عليَّ أن أحاول تصحيحها، ومن أجل المصلحة الفضلى للوطن، كان يتوجب علينا جميعًا أن نتبادل الأدوار ونتقبل كل الأراء، حينما فوجئت بنماذج ورموز من الثورة ممن ينتمون للتيار المدني والإسلام الوسطي مثلك ياشمس أنتِ ودليلة، وبعد معاشرتي لكم، تغيرت في مشاعري حاجات كتير، تأكدت أنني لست بمفردي من يحب هذا الوطن، كانت دائمًا قناعتي أن التيار المدني يتقبل المنتمين للإسلام الوسطى أكثر مني لذلك كثيرًا ما كنت أدعك يا دليلة لتكوني همزة الوصل بيني وبين شمس، ومع مرور الوقت وتشابك المواقف والآراء داخل السجن، رأيت أننا نكاد نكون نفس الفكر إلا أن التصنيف واختلاف المسميات في الخارج ساعدت في التفرقة بيننا، شعرت أنه ما كان ليفهم أحدنا الآخر بهذه الدرجة من الشفافية والعمق لولا وجودنا مع بعض في السجن مع الأسف.

نظرت لها ولدليلة، ابتسمنا جميعا في آن واحد، اغرورقت أعيننا بالدموع، ولم تكن إلا دموع ندم على ما مضي من وقت مر علينا ونحن غرقى في الاختلاف رغم أن الساحات والميادين كانت تفتح أذرعها لنا، كنا نمتلك الشارع وكانت لدينا كل الفرص للالتقاء والتقارب، إلا أن من هيمنوا على الموقف آنذاك وقرروا الوقوف في أماكنهم والتمسك بالاختلاف والخلاف هم الخاسرون، وقد خسرنا معهم الكثير، ويجب أن نعوض ما مضى من هنا، من وراء القضبان.

فضلت دليلة في البداية أن تبقى في صف المستمع كما عهدناها، شعرت صفا أن هناك أمرًا ما يراودني أرغب في الإفصاح عنه، سألتها عما إذا كان هناك محاولات من البعض هنا للتفرقة بيننا، ترددت صفا في البداية أن تجيبني، ولكن كعادتها اندفعت ضاحكة ببراءة الأطفال، «بصراحة نعم» واجهت من بعض الأشخاص محاولات كثيرة للتفرقة بيننا مثل: «أنت ما تعرفيش إن شمس بتنتمي للتيار المدني… لمن خذلونا وباعونا، ومعرفتك بها ستجعلك عرضة لخطر الضم على ذمة قضايا أخرى!» كنت دومًا أسعى جاهدة لتغيير فكرتهم المغلوطة هذه، وأننا الآن في كفة واحدة يتوجب علينا الاتحاد وأن ننحي خلافاتنا جانبًا، حاولت أن أوضح لهم أن الثقة بيني وبينكم يا شمس أنتِ ودليلة كانت لوجودنا على أرضية واحدة هي ثورة يناير، لأن هناك دومًا حلم مشترك يجمعنا هو «الثورة».

وتوصلت في النهاية وخلاصة فترة سجني أن حلنا الوحيد لكي نعود أدراجنا كما في السابق متحدين أن نفهم بعضنا البعض ونحسن الظن في بعضنا، جميعنا نحب هذا الوطن ولكن بطرق مختلفة، ربما طرأ إلى أذهان شمس ودليلة ما إذا كان البعض لم يزل مؤيدًا لفكرة التشويه أو التخوين أو الإقصاء نوعًا ما، ودون أن نتناقش في الأمر بادرتنا صفا بالإجابة وكأنها استشعرت ما يدور في خلدنا، مجيبة «نعم» ما يزال بعض المنتمين للإخوان المسلمين مُصرين على عدم تقبل الآخر، وبينهم أناس يشاركوننا ذات الآلام هنا فهم معتقلين معنا، وللأسف لم  يستفيدوا من التجربة التي مررنا بها شيئًا، ويقع على عاتقي محاولة أن أكون همزة وصل بيننا وبينكم.

حديث صفا نزل على قلبي بردًا وسلامًا، لم تختلف أفكار دليلة عن صفا إلا قليلًا، ولكنها أكدت وجهة نظر كنا قد تناقشنا فيها سويًا على انفراد، لطالما كانت تدور أحاديث بيني وبين دليلة كل لحظة، على أنغام السيدة أم كلثوم كل مساء، كنا نتغنى دومًا ببعض المقتطفات المحببة إلى قلوبنا، «هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر» ترددها دومًا وتبتسم لي ابتسامة عذبة تحمل بين طياتها محبة خالصة وصفاء روح لم أعهده قبل أن ألتقي بها، كان لدليلة مكانة خاصة في قلبي، كانت تهديني كلمات محبة مدونة على مراكب صنعتها بيديها من قصاصات الورق التي كنا نتمكن من تهريبها من بعض السجينات مقابل مبلغ زهيد، ضمن محاولاتها لإسعادي، لكي تهدئ من روعي حيال كل ما يدور حولنا، السجن لم يجمع بين أجسادنا فقط، ولكنه أصر أن يأخذنا إلى أبعد من ذلك، جمع بين أفكارنا وأرواحنا، صار لدينا توارد في الخواطر وفي الأحلام أيضًا، كانت تحافظ كل يوم على إيقاظي كي نصلي الفجر سويًا، نجلس قرابة الباب الحديد، ننظر إلى الجزء الظاهر من السماء من خلف طاقة الباب «الطاقة هي فتحة على هيئة مربع لا يتعدى طوله وعرضة ٢٠ سم» اكتسب اسم الطاقة ربما من السجناء الذين سبقونا، فقد كان يمدنا بجزء من الطاقة حتى وإن كان بشكل وهمي، ولكنه من الأشياء القلائل التي جعلتنا نصمد حتى تمكنت من الجلوس اليوم خلف شاشة الحاسوب، وأكتب هذه السطور.

ذات مرة وقت الغروب رأت دليلة يمامتين دخلتا إلى الزنزانة من طاقة الباب، نادت عليَّ دليلة لتخبرني أنها تراقبهما كل يوم يأتيان في نفس الموعد تنظر إليهما وترانا في هيئتهم، ثم تطير واحدة منهم ومن ثم تلحقها الأخرى. «أرأيتي؟! ستخرج إحدانا من هنا وستلحق بها الأخريات» لن نفترق في الخارج يا ابنة روحي… هكذا كانت تلقبني.

لقد طارت شمس خارج الأسوار ومازلتي أنتِ يا دليلة روحي تقبعين وحدك هناك، نور الشمس لن يضيء حتى تعودي عزيزتي.

تصوير حسام الصياد

تشابهت أفكار دليلة وصفا بعض الشيء نعم، ولكن تشاركت دليلة معي في حملات تشويه وترهيب من حولنا مثلما حدث معي، اعتبرها بعض المنتمين لتيار إسلامي يرفض المناقشة بأنها ممن تغاضين عن الخلافات التي وقعت بين كافة الأطراف، جعلوها مسئولة عن الدماء التي أريقت في أحداث دامية على مدار السبع أعوام الماضية، كانت دومًا تحاول أن تزيح الغمامة عن أفكارهم دون كلل أو ملل.

سرقنا الوقت وأصبحت الثانية عشر مساءً، لم نشعر بالوقت إلا عندما علا صوت غاضب ينهر الجميع: «وقت التمام يا جماعة، كفوا عن أحاديثكن التي أودت بكم إلى السجن». إنه صوت نبطشية العنبر تحدثنا وكأنها أعلى برج مشيد خارج تلك الأسوار التي تجمعنا وراءها. في وقت التمام على الجميع أن يصبحوا نيامًا، حتى وإن لم يرغبن في ذلك، تلتزم كل منا فراشها، تتنفس بصوت خافت، من ترغب في الصلاة أو الاستحمام أو عمل مشروب دافئ يقيها من السقيع بعض الشيء، فعليها أن تحصل على إذن من النبطشية، وفي أغلب الأوقات يأت الرفض جوابًا، فهي الحاكم الآمر داخل تلك الزنزانة، ولهذا لم أكن أنا أو دليلة أو صفا على وفاق معها، لطالما كنا ندًا لها، نقف لها بالمرصاد عندما تتطاول على أحد منا أو من السجينات سواءً سياسيات كن أم جنائيات، ولهذا لم نحظ بمودتها يومًا، لطالما كنا المغضوبات عليهن.

كان لدينا جميعًا رغبة جارفة أن نكمل حديثنا حول المواقف التي لم ننساها في هذا المكان الموحش، قررنا في اليوم التالي أن نتناول الغداء سويًا في وقت مبكر حيث لا يسمح لنا بتناوله معًا لأن فراش دليلة لم يكن في ذات الغرفة معنا، لم يكن يفصلنا سوى حجاب من القماش الشفاف ولكنها كانت تعد غرفة أخرى مسئولة عنها نبشطية أخرى. أكملنا حديثنا وكنا نود في هذه الأثناء أن نحكي عن المواقف التي سأظل أذكرها دومًا، ضحكت بخبث قبل أن أبدأ حديثي، أطلعتهم على موقف أدخل السرور والقوة إلى فؤادي حينها، ذات يوم تعرضت لي إحدى السجينات الجنائيات بالسب، وكان هذا بالاتفاق مع نبطشية الزنزانة، سادت حالة من الهرج والغضب بين جموع السجينات السياسيات، ولكن حينما أتت السجانات لإنهاء الأمر بغلق باب الزنزانة دون حله، والتصدي لمضايقات النبشطية، تراجع الكثير ممن كانوا حولي خشية التهديد أو العقاب بالحبس الانفرادي، وفجأة وجدت صوت خافت من خلفي: «إحنا في ظهرك، أيوة الإخوان وراكِ» لم أنتبه لصاحب الصوت جيدًا حينها، لكن وقع الكلمات على أذني وروحي كان مدويًا، منحني ثباتًا وقوة أكبر لملاقاة مصير يخشاه الكثيرات منا، انتهى الشجار وجلست أفكر في صاحبة تلك الجملة، وجدت أنها صفا وزميلة أخرى، أصرتا على أن يشدان من أذري ويعضدا موقفي أمام من تطاولن علينا.

تأكدت حينها ان اخطاء الماضي لا ينبغي لها ان تتكرر، وعلىّ ان اوثق ما حييته وراء تلك الأبواب، ومع أناس كانوا هم الوتد والداعم، لولا وجودهم الى جواري لما صمدت الان، لما تمكنت من إخباركم بتلك القصة.. لولاهم ما نجيت..

حسناً.. اسمع ذلك التساؤل الذي يدور في نفوس البعض منكم، نعم لا نزال أصدقاء، رغم المسافات التي بيني وبين كل من صفا ودليلة، لكننا تعاهدنا ان تدوم تلك الصداقة.

لكن يبقى بداخلي دوما شعور قاتل بالذنب، المعروف بعقدة الناجي، هذا صحيح فلم ينجو منا أحد من السجن وهو تاركا احبته في ذلك المكان الموحش الذي لم يكن يوما لمثل صفا ودليلة وغيرهن.

هل ستتمكن تجربتنا من احداث فارق ولو ضئيل في فكر المتعصبين، هل سيقرر البعض عمل مراجعات فكرية لما سبق لربما يستنبط من تلك المراجعات أخطاء أودت بنا الى ما نحن عليه الان.. تساؤلات كثر تكاد تفتك برأسي اود لو أجد إجابة لها.. لكن ستبقى كافة الذكريات التي عايشتها هناك معهن هي القوة الكامنة التي ستدفعني دوما للمضي قدما، تلهمني الرشد، تمنحني الثبات.

 

ملاحظة المحرر: هذا المقال مقتبس من كتاب قادم سيتم نشره لاحقًا في عام 2022.

Want more insights like this?

Get our newsletter straight to your inbox

Support Us

We hope you enjoyed this paywall-free article. We’re a non-profit organization supported by incredible people like you who are united by a shared vision: to right the wrongs that persist and to advocate for justice and reform where it is needed most.

Your support of a one-time or monthly contribution — no matter how small — helps us invest in our vital research, reporting, and advocacy work.

مقالات ذات صلةالمشاركات

related

ساعدوا "دون" على حماية حياة وحقوق الفلسطينيين في غزة.

إننا نناضل من أجل وقف إطلاق النار ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين المسؤولين عن جرائم الحرب في غزة.