معين رباني محرر مشارك في مجلة "جدلية" وزميل غير مقيم في مركز دراسات الصراع والإنسانية
إنّ الحكم الأولي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية يوم الجمعة بشأن تُهَم الإبادة الجماعية ضد إسرائيل قد صنع التاريخ، وهذا ليس مبالغة. فقد وجدت المحكمة العليا التابعة للأمم المتحدة في لاهاي أنه "من المعقول" أن إسرائيل ارتكبت أعمالًا ضد الفلسطينيين في غزة تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. وعلى الرغم من أن حكمها ليس حكمًا بعد بشأن ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية، وهو الأمر الذي قد يستغرق سنوات قبل أن تقرر المحكمة في ذلك، إلا أن محكمة العدل الدولية قد قضت بأن لها اختصاصًا للمضي قدمًا في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، رافضة حجة إسرائيل الرئيسية.
وأصدرت المحكمة تدابير مؤقتة لحماية سكان غزة المدمرين من خطر الإبادة الجماعية ومن بينها أنه يجب على إسرائيل أن تضمن "بأثر فوري" أن قواتها العسكرية لا ترتكب أيًّا من الأعمال المحظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وأنه يجب على إسرائيل " اتخاذ جميع التدابير" لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة. وتم إقرار كل من الإجراءات المؤقتة الستة بتأييد ساحق من قضاة المحكمة السبعة عشر، بأغلبية 16 صوتًا مقابل 1 و15 صوتًا مقابل 2.
في هذه المرحلة من الإجراءات في لاهاي، تلخصت القضية في مسألة واحدة: ما إذا كانت محكمة العدل الدولية ستقرر أن جنوب أفريقيا قدمت اتهامًا معقولًا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وعلى هذا الأساس، تسمح للمضي قدمًا بالقضية في جلسات استماع كاملة. أي شيء آخر هو أمر ثانوي. وفيما يتعلق بهذه النقطة الحاسمة، كان حكم المحكمة واضحًا لا لبس فيه: فالحجج التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في وقت سابق من هذا الشهر كانت مقنعة بالقدر الكافي، وكان رد إسرائيل وإنكارها غير مقنع. وستعقد المحكمة الآن جلسات استماع كاملة لتحديد ليس فقط ما إذا كانت إسرائيل متهمة بشكل معقول، بل كذلك ما إذا كانت مسؤولة بشكل كبير عن جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
في هذه المرحلة من الإجراءات في لاهاي، تلخصت القضية في مسألة واحدة: ما إذا كانت محكمة العدل الدولية ستقرر أن جنوب أفريقيا قدمت اتهامًا معقولًا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.
- معين رباني
هذه هي النقطة التي تم فيها صناعة التاريخ. فمنذ 26 يناير/كانون الثاني 2024، لم يعد بإمكان إسرائيل ورعاتها الغربيين استخدام المحرقة لحماية أنفسهم من المساءلة عن جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني. وقد أشار راز سيغال، الأستاذ البارز في دراسات المحرقة والإبادة الجماعية، مؤخرًا إلى أن دولة إسرائيل وُلدت في ظل الإفلات من العقاب. وقال: "إنّ فكرة أن الدولة اليهودية يمكن أن ترتكب جرائم حرب، ناهيك عن الإبادة الجماعية، أصبحت منذ البداية فكرة غير واردة، وأن إفلات إسرائيل من العقاب جزء لا يتجزأ من النظام".
ووصف الراحل إدوارد سعيد الشعب الفلسطيني بأنهم "ضحايا الضحايا ولاجئي اللاجئين"، عندما كتب عن الصعوبات التي واجهها الكثيرون في الغرب عندما تصوروا إسرائيل كدولة يمكنها ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالنظر إلى تأسيسها في أعقاب المحرقة، ولا شيء أكثر. واعتبارًا من اليوم، ترتبط إسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية باعتبارها مرتكبًا محتملًا، وليس ضحية. ومن الآن فصاعدًا سوف يتم الحكم على السياسات التي تنتهجها إسرائيل في التعامل مع الشعب الفلسطيني على أساس الأفعال وليس في ضوء الظل الطويل من التاريخ الأوروبي.
وأعادت محكمة العدل الدولية اليوم تعريف عبارة "لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدًا". ولم يعد شعارًا يمكن أن تستخدمه إسرائيل لارتكاب جرائمها وتبريرها ضد الآخرين. وهو الآن ينطبق بالتساوي على تصرفات إسرائيل—وعلى الضحايا الفلسطينيين.
إنّ القضاة في محكمة العدل الدولية ليسوا دبلوماسيين يتّبعون تعليمات حكوماتهم. ومع ذلك فقد كان من دواعي سرورنا بشكل خاص أن نرى حكم المحكمة يصدر عن القاضية الأمريكية جوان دونوغو، التي صوّتت لصالح كل من التدابير المؤقتة التي اتخذتها المحكمة. وأثناء النطق بالحكم، قرأت دونوغو عدة تصريحات لمسؤولين إسرائيليين منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي قدمتها جنوب أفريقيا كدليل على نية إسرائيل للإبادة الجماعية. لقد كان ذلك ردًا مناسبًا على اندفاع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الحكم بأن قضية جنوب إفريقيا "لا أساس لها من الصحة". فهل تكلف بلينكن عناء قراءة مذكرة جنوب أفريقيا المقدمة إلى محكمة العدل الدولية؟ وربما يعتبر أن أي اتهام ضد إسرائيل، أو أي تحدي لإفلاتها من العقاب، أو أي جهد لمحاسبتها على جرائمها، هو أصلًا لا أساس له من الصحة. فهل من المفاجئ أن وزارة الخارجية الأمريكية، في بيان حول الحكم، ما زالت تصف مزاعم الإبادة الجماعية بأنها "لا أساس لها من الصحة"؟
سوف يتم الحكم على السياسات التي تنتهجها إسرائيل في التعامل مع الشعب الفلسطيني على أساس الأفعال وليس في ضوء الظل الطويل من التاريخ الأوروبي.
- معين رباني
وقد تكون التدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة ملزمة قانونًا، ولكن لا ينبغي الخلط بين محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فلا تملك المحكمة نفسها أي وسيلة لتنفيذ أحكامها، والأمر متروك لمجلس الأمن لإصدار قرار بتنفيذها. ومع ذلك، فإن الإجراءات المؤقتة الستة الصادرة لإسرائيل لا تزال مهمة، بما في ذلك أنه يجب على إسرائيل تقديم تقرير إلى المحكمة في غضون 30 يومًا حول كيفية التزامها بها. بمعنى آخر، إسرائيل في قفص الاتهام ويتم مراقبتها بعناية. وحقيقة أن المحكمة لم تأمر بوقف إطلاق النار كما طلبت جنوب أفريقيا—وهو الأمر الذي ستتجاهله إسرائيل ببساطة، بدعم من رعاتها الغربيين—كان أمرًا متوقعًا وهو بالكاد الأمر الأساسي في هذه القضية.
وأخيرًا، يفرض حكم محكمة العدل الدولية أيضًا التزامات قانونية على كافة الدول الأخرى الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول أوروبا. فالشمس لا تشرق من الغرب، والنفاق الغربي—بأن المبدأ الأساسي هو "نظام دولي قائم على القواعد"—لن ينتهي في أي وقت قريب. لكن حكم محكمة العدل الدولية يمهّد الطريق لتحميل رعاة إسرائيل وداعميها المسؤولية في نهاية المطاف.
وكما وصف الناشط والسياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي الحكم: "للمرة الأولى منذ 75 عامًا، يتم تجريد إسرائيل من الحصانة التي تتمتع بها أمام القانون الدولي". إنه انتصار للمساءلة طال انتظاره.