"لقد واجهنا ليلة مروعة. واحدة من أسوأ الليالي. كنا نظن أن هذه هي النهاية." هذا ما قاله محمد ابولبدة في رسالة ارسلها لي مؤخراً.
يعيش أبو لبدة وعائلته في رفح، على الحدود مع مصر، تحت القصف الإسرائيلي مع أكثر من مليون فلسطيني آخرين، حيث نزح العديد منهم من شمال غزة بسبب الجيش الإسرائيلي. وكلهم يخشون ما قد يأتي بعد ذلك. وقال محمد البالغ من العمر 27 عاما أن رفح، حيث عاش طوال حياته، توجه الآن "نداءها إلى العالم".
وهذه هي القصيدة الثانية لأبو لبدة التي تنشر في مجلة الديمقراطية في المنفى. وقد ترجمها عن العربية صالح أبو شمالة. إقرأ "أن تكون غزة (الجزء الأول)" هنا.
فريدريك ديكناتيل، المحرر التنفيذي
*
أن تكون غزّيًا (٢)
هذه الحرب غيّرتنا إلى الأبد، أخرجت فينا الطفل الخائف المرتبك، مثلما قال هاروكي موراكامي بأن في داخل كل منّا طفل يلعب الغميضة وحيدًا، على أمل أن يعثر علينا أحد..
وفي لحظاتٍ أخرى حوّلتنا لشيوخ، أكسبتنا رضا الجدات، ومنحتنا حكمتهن وتسليمهن بقضاء الله.
وبشكل آخر كنّا في بعض المواقف أمّهات مدبّرات حريصات، نقتصد الماء، والدمع، ونخفي ألمنا، متسلّحين بصلوات نوزّعها عمّن حولنا ليعمّ دفء الله.
وليس غريبًا أبدًا إن تحوّلنا مرّة إلى فلاسفة، نتقمّص عدمية سيوران وسخط نيتشه، نفترض الأسوأ ونحلل الواقع بسوداويته الحقيقية، نطلق لكلمات النفي العنان، ونمنح للوقت صفة الأبدية.
وقد صنعت منّا غزّة صحفيين، محللين سياسين، محاولين إقحام الأخبار المتسارعة تحت سلطة التحليل، تارةً نستنبط ما وراء التصريحات بأن كل هذا سينتهي، وأخرى نستسلم لسطوة القلق بأننا لازلنا عالقين في المتاهة.
غزّة التي طبّقت في أزمتها قصص الأنبياء، فمرّة نرى كبش الفداء، ومرّة نتبع خطى الغراب لدفن إخواننا، ولا مشكلة لديها بأن تكون بئرًا عميقًا يجسّدُ تقاعص الإخوة ومؤامرات الأقرباء..
إلا أنها أيضًا تجبرك على صبر أيوب عند انقطاع الآمال، فبطنُ الحرب التي ابتلعتنا جميعًا فرضت عليك الصبر كخيار وحيد.
ولا شك أن كل من في غزّة مسيح، يحمل خطايا الغير، ويُحاسبُ عن تقصيرهم بلا شكوى، يصنعُ معجزة حين يسير على الماء، لكنّه يغرقُ في اليابسة كما قال شاعر مرّة.
غزّة لعنة حقيقية، لا تفكُ لعنتها قُبلة من المساعدات، ولا تحلّها تعويذة ساحرة فارسية.. هي اللعنة التي تحبُّ أن تُصيبك، تؤلمك نعم، وتقسو عليك كزوجة أب، لكنّك وبشكل تعجز عن تفسيره تظلُّ تحبّها.