أميد معماريان مدير التواصل لدى منظمة الديمقراطية للعالم العربي الآن «DAWN».
يعتبر الفنان الفلسطيني محمد الحواجري، الذي يعيش في غزة، أنه ليس من السهل على المرء أن يكون فنانًا بغض النظر عن مكان تواجده في العالم، إلا ان الأمر أكثر تعقيدًا وصعوبة في غزة. فهو يرى أن "الفنان يحتاج إلى الحرية فهي الرئة التي يتنفس من خلالها وهي المحرك الرئيسي لأفكاره".
وفي حوار مع منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، تحدث الحواجري، عن حياته كفنان، قائلا إن هناك فرصة لملء فراغ الفن والثقافة في غزة اليوم.
ويصف الحواجري الفن ب "الحديقة الكبيرة المزهرة التي يهرب الناس إليها من همومهم اليومية"، وللأسف، فإن الهموم القاسية واليومية التي يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال تكون هي الطاغية في بعض الأحيان.. لذا يحاول الحواجري من خلال عمله الفني توفير قدر من الهروب ومنفذ للخيال.
لم تكن أعمال الحواجري مؤثرة في وطنه فحسب، بل وصل صداها أيضًا إلى معارض مختلفة حول العالم، بما في ذلك المؤسسات الرئيسية في أوروبا، وفقا لما أوردته البي بي سي في عام 2014.
وُلد الحواجري عام 1976 في غزة، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في مخيم البريج وسط قطاع غزة. كان شغوفًا بالفن منذ نعومة أظفاره، والتحق في عام 1994 ببرامج تدريبية لتعلم الرسم والتلوين في غزة.
بين عامي 1996-1998، تم اختياره للعمل في مشروع لرسم الجداريات في المؤسسات والمراكز النسائية التابعة للأونروا، واكتسب هناك مهارات وخبرات كبيرة من الفنانين اليابانيين الذين أداروا المشروع.
في عام 1999 تم اختياره للمشاركة في الأكاديمية الصيفية التي تنظمها مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون في عمّان، حيث أشرف على البرنامج الفنان الألماني السوري البارز مروان قصاب باشي، الذي تتلمذ الحواجري وتعلم على يديه.
وفي حوار مع مجلة الديمقراطية في المنفى، يتحدث الحواجري عن طفولته وكيف ولماذا أصبح فنانًا، ويتحدث كذلك عن مسيرته الفنية في غزة.
وتالياً مقتطفات من الحوار:
منظمة (DAWN): كنت تعتقد في البداية أنه يجب عليك فصل الفن عن السياسة، لكن ذلك تغير بمرور الوقت. ما الذي جعلك تعتقد أن الفن والسياسة متشابكان إلى حد كبير؟
في الواقع أنا لا أحب أن يرتبط عملي الفني بالسياسة وخاصة أنه سيفقد فكرته الأساسية. ففي كثير من أعمالي أحاول التعبير عن نفسي كإنسان وكفنان له حياته الخاصة، والتي من المؤكد ستكون قريبة من حياة الناس الآخرين، لأنني أعيش نفس ظروفهم ونفس همومهم، ولكن هناك أفكار وموضوعات تأتي من ذكريات الطفولة التي أحب أن أحولها لأعمال فنية بحثًا عن نفسي فيها وأيضًا لتخليد ذكريات أحب أن يعرفها الناس عن حياتي وأحب أن يعرفها أبنائي أيضًا.
ولكن يبدو أنه لا خيار للإنسان الذي يعيش في ظروف متقلبة دائمًا مثل الظروف التي نعيشها في فلسطين وخاصة في قطاع غزة. فالحياة اليومية هي سياسة ومتأثرة بكل ما هو سياسي. وأستطيع أن أجزم بأنه لا يوجد شيء في غزة غير مسيّس. ولذلك، لا أجد مهربًا من هذا الواقع الذي فرض نفسه في عملي الفني. فكما نعلم يجب أن يكون الفنان أكثر صدقًا في طرح موضوعاته والتي تأتي من واقع الناس.
فمنذ عام 2000 تقريبًا بدأ عملي الفني يأخذ شكل خاص من خلال التطرق إلى القضايا العامة. وهنا أحب أن أؤكد أنني أصبحت مشغولًا بالقضايا الإنسانية التي يعيشها الناس في غزة وهذا أصبح واضحًا من خلال مشاريعي الفنية منذ عام 2010.
فمثلاً كان مشروع (حدود الصبار) أول مشروع متعدد الوسائط يتناول الحياة اليومية في قطاع غزة، مع نوع من السخرية السوداء والتي أصبحت طريقة أحب التعبير بها عن كل ما يدور من حولي وهذا بات واضحًا في المشاريع الفنية اللاحقة مثل مشروع (السجادة الحمراء) 2014، ومشروع (جورنيكا –غزة) 2013، ومشروع (فيما تبقى سوف نحيا) 2014.
إضافة الى مشروع (أسد غزة) 2015، وغيرها من المشاريع والأفكار التي لم تنجز بعد وهي بانتظار الوقت المناسب لإنتاجها لتكون إضافة الى مسيرتي الفنية.
منظمة (DAWN): ماذا يعني أن تكون فنانًا في غزة؟ ما هي التحديات التي تتعامل معها بشكل منتظم؟
ليس من السهل أن تكون فنانًا بغض النظر عن مكان تواجدك في العالم. ومع ذلك، فإن الأمر أكثر تعقيدًا وصعوبة في غزة. فالفنان يحتاج إلى الحرية، فهي الرئة التي يتنفس من خلالها وهي المحرك الرئيسي لأفكاره. ولهذا، أن يعيش المرء كفنان في غزة هو في غاية الصعوبة في ظل غياب البيئة الحاضنة للفنون والفن.
فلا يوجد في غزة مقومات الحياة الفنية، لا يوجد مسرح ولا سينما ولا معرض ولا متحف ولا مؤسسات فنون ولا يوجد دعم من الحكومة لدعم الفنون.
ولكني أتفهم أن هناك أولويات في الحياة في غزة، أهم هذه الأولويات هي توفير العيش الكريم للناس. ولكن مع هذا لا يوجد عيش كريم للناس. كما أننا نرزح تحت حظر السفر. نعيش منذ أكثر من 15 عام تحت حصار خانق أفقدنا الكثير من الفرص وجعلنا ضعفاء جدًا في الكثير من الأمور.
أن تعيش كفنان في هذه الظروف يعتبر إنجاز وتحد كبير. ورغم كل ما ذكر أعلاه إلا إنني أشعر دائمًا أنني فنان محظوظ لكوني أعيش في غزة، فهي المكان الملهم لي، لأنها منطقة مليئة بالتناقضات والتغيرات وهذا كله يجعلني أكثر إبداعًا لإيماني بأن هذه الحياة الخاصة يمكن الاستفادة منها في بناء الأفكار الفنية، وهذه الفرصة الوحيدة التي تجعلني مختلف بين زملائي الفنانين. فأجد هذا الأمر إيجابي ومحفز لإنتاج فن من نوع خاص يحمل قضايا إنسانية الهدف منها الوصول إلى العالم برسالة وهي أن الفن هو طريقة للحوار وطريقة لخلق التساؤل والتبادل الثقافي.
ففي كل مرة أنتج فيها عملي الفني أشعر بالتميز، وهذا الشعور يجعلني أكثر فخرًا بأنني فنان يعيش في غزة.
ومن هذه التحديات عدم توفر المواد الأساسية الفنية التي يحتاج لها الفنان لإنتاج عمله الفني. ورغم قلة الأدوات إلا أن هذا الظرف جعلني أفكر في إيجاد الحلول. فهناك مثل يقول (الحاجة أمّ الاختراع). ومن هذا القول الشهير ابتكرت أدواتي، فقمت بالرسم باستخدام بهارات الطعام المنزلية وأنتجت معرضًا كاملًا تحت عنوان "روح وروائح." فهذا المعرض لاقى نجاحًا كبيرًا لأن الأعمال الفنية كانت معطرة بروائح يعرفها الناس، وهذا جعل الأعمال أكثر تميزًا بسبب تلك الروائح التي أضافت بُعدًا أخرًا مثل الشم الذي شغل جمهور المعرض في يوم الافتتاح في مدينة غزة.
وأيضًا كان لي تجربة أخرى باستخدام عظام الحيوانات النافقة في أعمالي النحتية الخاصة. كانت هذا الأعمال مفاجئة فعلًا للجمهور في فلسطين والتي لاقت إعجاب الكثير من المهتمين بالفنون. وتم اقتناء أحد هذه الأعمال من قبل متحف معهد العالم العربي في باريس عام 2009.
ففي كل مرة أمارس بها حرفتي الفنية أشعر وكأني في مختبر للفنون أبتكر أدواتي الفنية لكي أشبع رغبتي لكي أستمر في إنتاج الفن رغم أي ظروف. لذلك أقول إنني فنان محظوظ.
منظمة (DAWN): في العديد من أعمالك، نلمس شعورًا بـ "السخرية النقدية." كيف استكشفت هذه اللغة المرئية وما هي الرسالة التي تعتقد أنها تصل إلى جمهورك؟
في الحقيقة الجمهور ينتظر أعمال فنية خاصة وواضحة عندما يعرف أن الفنان من غزة. ففي كل مرة أسافر بها للمشاركة في المعارض أو ورشات العمل الفنية في أوروبا، يتفاجأ الجمهور عندما يجد أعمال فنية ناضجة بنفس مستوى الأعمال التي اعتادوا على مشاهدتها في صالات المعارض في بلدانهم. هذا الأمر جعلني أكثر إصرارًا على تطوير أدواتي الفنية.
ولهذا أنا دائم البحث عن أفكار وأدوات وطرق للتعبير عن أفكاري وأعمالي الفنية حتى أكون قادرًا على توصيل فكرتي إلى العالم. فالسخرية من الواقع تعني الاعتراف بهذا الواقع وأنا أحاول دائمًا التأكيد بأن الواقع مرير، ولكن الحديث عنه يجب أن يكون منطقي وغير مبالغ فيه. فأحاول خلق فرق ما بين ما يشاهده الناس عبر وسائل الاعلام التي تبالغ أو تستهين بالواقع الذي نعيشه في غزة.
فهنا يأتي دور الفن لكي يطرح القضايا بطريقة يتقبلها الناس مع ابتسامة صغيرة. قد تكون تلك الابتسامة مدخل ليتعرف الناس على همومنا وأن يتعرف عن قرب على حجم الظلم الواقع على الناس في قطاع غزة. واعتقد أنني نجحت في هذا الأمر من خلال مشاريعي الفنية التي لاقت إعجاب كثير من الناس الذين يهتمون بالفنون والثقافة.
منظمة (DAWN): يقول محمود درويش: "السخرية تساعدني على التغلب على قسوة الواقع الذي نعيشه، وتخفف ألم الندوب، وتجعل الناس يبتسمون." ما مدى قرب نسختك من السخرية في فنك مع ما عبّر عنه درويش من خلال الكلمات؟
صدق درويش بما قال. فأنا أوافق هذا القول وخاصة أن العالم يعيش في صراع دائم. وهذا الصراع أغرق الانسان في هموم كثيرة وأعتقد أن الإنسان الآن لا يملك الوقت الكثير ومنشغل في تأمين العيش الكريم لنفسه ولأسرته. ولهذا نجد أن كثير من الناس لا يملكون الرغبة في متابعة أحداث العالم أو ما يدور من حولهم وهذا يعتبر هروب من الواقع في ظل الانشغالات اليومية. وهنا يأتي دور الفن والفنانين. فيجب أن يكونوا أذكياء في طرح أعمالهم الفنية وخلق نوع من المرح لاستقطاب هؤلاء الناس وإعادتهم إلى طبيعتهم.
فالفن هو الحديقة الكبيرة المزهرة التي يهرب الناس إليها من هموم انشغالاتهم وأعمالهم اليومية. لذا يجب علينا كفنانين أن نخلق فرصة لهؤلاء الناس ليعيشوا معنا نفس الهم ونسخر منه معًا.
منظمة (DAWN): في مكان يواجه واقعًا مريرًا في كل لحظة، كيف يعكس عملك حياة الأشخاص الذين يشكّلون مخيلتك؟
من هُم الناس؟ إنهم أنا وأنت وهو وهي ونحن جميعًا. ففي كل مرة أعبّر بها عن نفسي أجد بهذا تعبيرًا عن الجميع. فأعتمد في بعض أعمالي الفنية على الذكريات من طفولتي ومن سماعي لقصص من الواقع المعاش في غزة. فمثلًا، قام رجل في غزة بتربية شبلين لأسد في بيته مع أطفاله بعد أن فقد الشبلان أبويهما في حرب 2009 بعد قصف حديقة الحيوان الوحيدة. فقرر الرجل الاهتمام بالشبلين، ومع مرور الوقت كبر الشبلان، وهذا يعني أنهما بحاجة إلى كمية كبيرة من اللحم. وهذا أمر مستحيل تحقيقه من قبل الرجل الفقير. فأصبح أبناء هذا الرجل يأخذون الأسدين إلى الشوارع وعلى شاطئ البحر، فيلتقط الناس الصور بصحبة الأسدين مقابل مبلغ زهيد. ساعد هذا الأمر في إعالة العائلة والأسدين.
نشر أحد الأشخاص صورته مع الأسد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فسمعت بالحادثة إحدى الجمعيات السويدية التي تهتم برعاية الحيوانات فأرسلت فريق من هذه الجمعية لزيارة غزة وعمل التنسيق اللازم مع الإسرائيليين لنجدة الشبلين الذين تم اخراجهما من غزة بتنسيق خاص، وسافرا الي السويد لتلقي الرعاية هناك.
فمثل هذه القصة جعلتني لا أنام، وإنما أفكر كيف لي الاستفادة منها في عمل مشروع فني. فقمت برسم لوحات للأسدين مع شباب مراهقين.
ما أود التأكيد عليه أنني دائم الترقب لما هو خاص ومميز حتى لو كان بسيط. فدوري كفنان هو أن أسلط الضوء على مثل هذا النوع من القصص والتي من شأنها أن تكون سببًا في لفت انتباه المعنين.
منظمة (DAWN): لقد شاركتَ في العديد من المعارض الجماعية في بيت لحم وغزة والقدس ورام الله وغيرها، ما يدل على مجتمع فني نابض بالحياة في فلسطين. أخبرنا عن المشهد الفني من حولك؟ ما مدى شعبية الفن في فلسطين؟ وكيف ينظر الجمهور إلى الفنانين؟
منذ احترافي للفن أصبحت منشغلًا به طوال الوقت ما بين إنتاج أعمال فنية أو خلق الفرص مع أصدقائي الفنانين لجيل يحب تعلم الفنون. فمنذ عام 2002 أسست مجموعة فنية في قطاع غزة، وهي مجموعة (التقاء للفن المعاصر) التي أصبحت تساعد على نشر الوعي الفني من خلال تنظيم الأحداث الفنية من معارض وورشات عمل وحوارات وغيرها من النشاطات الفنية في غزة. وهذا ساعد كثيرًا في خلق حالة من الوعي. فأصبحت هذه المجموعة نقطة التقاء وبيت للفنانين في مدينة غزة.
ومن هنا أستطيع القول بأن المشهد الفني في فلسطين هو مشهد نشيط، وما يميزه هو الانتماء الكبير من جيل الشباب الذين يحبون الفن والذين يجدون به ملاذًا للتعبير عن همومهم وأفكارهم.
ففي كل مرة أشارك في أعمالي الفنية في فلسطين أشعر بنوع من الفكر لكوني أحد الفنانين الفلسطينيين الذين يشاركون في بناء المشهد الثقافي والفني في فلسطين.
وخلال العشر السنوات الماضية نظمت الكثير من المناسبات الثقافية والتي وصل صداها إلى العالم، والتي كانت سببًا كبيرًا في لفت الانتباه لما يجرى في فلسطين من أحداث ثقافية. ورغم قلة الموارد والدعم إلا أننا نلمس حراكًا كبيرًا ومهمًا. نلمس هذا من خلال مشاركة كثير من الفنانين الفلسطينيين في الأحداث الفنية العالمية، وهذا يجعلنا أكثر فخرًا بالفنان الفلسطيني الذي يصل بعمله الفني إلى العالمية رغم ظروفه الصعبة.