رامي خوري هو مدير المشاركة العالمية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وزميل أول غير مقيم في مبادرة الشرق الأوسط في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، وكاتب عمود معروف دوليًا. يمكن متابعته على تويتر هنا @ramikhouri
English
كان لبنان ذات يوم الدولة العربية الاستثنائية التي، على الرغم من الحرب الأهلية والاضطرابات السياسية المستمرة، لا تزال تحمي التعددية والحريات الشخصية. لكن لبنان الآن يشبه العديد من البلدان الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، التي تعاني من حالة انحدار بطيء لا يرحم نحو الحرمان والاستبداد. يواجه العديد من اللبنانيين الفقر وتدني مستويات المعيشة وتقلص الحقوق الشخصية بشكل متزايد، بينما تبّنت النخب الحاكمة الراسخة طرقًا عسكرية واستبدادية أكثر من أي وقت مضى للبقاء في السلطة، وترفض باستمرار القيام بإصلاحات، ما يحكم على البلاد بمزيد من المعاناة.
إنّ تحوّل لبنان المحزن على مدى السنوات الثلاث الماضية مهم لسببين على الأقل. الأول هو أن نظام لبنان التعددي، الذي سمح للقطاعات التعليمية والإعلامية والتجارية والثقافية النابضة بالحياة بالازدهار في البلاد في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا وبعدها، ساهم أيضًا بشكل متكرر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعديد من الدول العربية الأخرى في نفس الفترة. استفادت هذه البلدان الأخرى من تدفق مشاريع ريادة الأعمال والمهارات اللبنانية، سواء في مجال الرعاية الصحية أو التعليم أو الأعمال التجارية الخاصة. لكن هذا التصدير اللبناني المميز يتراجع الآن وقد يختفي في النهاية مع انهيار اقتصاد البلاد. والسبب الثاني هو أن انزلاق لبنان إلى الفقر والحكم ذو الطابع الأمني أدى إلى انتقال شبه كامل للحكم السياسي العربي إلى نادي الحكام المستبدين والجنرالات والشباب الخطرين من أفراد الأُسر المالكة.
سرعان ما تحول لبنان إلى دولة عربية فقيرة ومضطربة أخرى: يعاني مواطنوه من ضغوط اجتماعية واقتصادية متزايدة، بينما يتم الاستيلاء على حقوقهم السياسية على يد حكومة سيئة لا يبدو أنها تحافظ على الاستقرار الاجتماعي، إلا من خلال قوات الشرطة والجنود وبلطجية النظام في ثياب مدنية يستخدمون الهراوات ويلقون الغاز المسيل للدموع. من التكتيكات المفضلة الجديدة للحكومة اللبنانية ضد منتقديها دعوة المواطنين لاستجوابهم من قبل الأجهزة الأمنية—أو في بعض الحالات من خلال احتجاز الأفراد وإحالتهم إلى المحاكم بزعم "الإضرار بالدولة" من خلال نشاطهم أو ما ينشروه على سائل التواصل الاجتماعي. هذا الأمر جديد بالنسبة للبنان، لكنه كان ممارسة شائعة خلال العقد الماضي في البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمغرب والجزائر والسودان والعراق والأردن.
انعكس تراجع لبنان على فلسطين، حيث تقوم السلطة الفلسطينية غير الكفؤة والمستبدة بشكل متزايد—والتي تتجاوب مع إسرائيل أكثر من تجاوبها مع شعبها—باعتقال أو ضرب المتظاهرين الذين يطالبون باستقالة الرئيس محمود عباس، الذي انتهت ولايته الأصلية التي دامت أربع سنوات في عام 2009. أثارت الحالة الأخيرة للصحفي الفلسطيني نزار بنات، الذي توفي في حجز الشرطة الفلسطينية، احتجاجات كبيرة في الشوارع في جميع أنحاء الضفة الغربية، والتي جابهتها حكومة عباس من خلال رجال شرطة مدججين بالسلاح والعديد من بلطجية الأمن الذين يرتدون ملابس مدنية.
نادرًا ما كانت تظهر هذه الأحداث، التي كانت روتينية جدًا في بلدان مثل مصر، من قبل في لبنان أو فلسطين. الآن وقد أصبح مثل هذا القمع واقعًا بالنسبة لهم أيضًا، يشعر اللبنانيون والفلسطينيون بغضب مضاعف بسبب عدم قدرتهم على فعل أي شيء حيال قوات أمن الدولة الوحشية. كما أنه يضيف إلى القائمة الطويلة من القضايا، التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية لفترة طويلة، للمتظاهرين المدنيين في جميع أنحاء العالم العربي الذين يتعرضون للمضايقة أو الاعتقال أو الاحتجاز أو حتى القتل لمجرد مطالبتهم بنظام حكم أفضل يحمي حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية—وخاصة الحق في حرية التعبير.
كان لبنان لسنوات منيعًا في منطقة تعاني فيها العديد من الدول من اقتصاداتها المتداعية والمواطنين المنكوبين بالفقر والحكومات العسكرية. الآن وقد انضم لبنان إلى هذا النادي البئيس، فإنه يسلط الضوء على سمة مدهشة للنظام السياسي العربي الحديث الذي ظهر قبل قرن من الزمان، على أيدي القوى الاستعمارية الأوروبية والنخب المحلية المفضلة لديهم: يبدو أن المنطقة بأكملها تتجه إلى وضع مشترك. ربما يعكس هذا حقيقة أن معظم المواطنين يتشاركون نفس الشعور بالأمل أو الإحباط، لأنهم على ما يبدو محكومون من قبل أنظمة سياسية مماثلة لم تتبنّ مطلقًا الديمقراطية التعددية الحقيقية أو المساءلة السياسية.
الدليل على هذا الأمر واضح. انتشر الكفاح المشترك من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري في أوائل القرن العشرين في معظم المجتمعات ذات الأغلبية العربية. ثم وضع التركيز المشترك على التنمية الوطنية وبناء الدولة معالم جميع الدول العربية في الفترة ما بين 1930 و 1960 تقريبًا. وبدءًا من أوائل السبعينيات، موّلت حقبة الطفرة النفطية اندفاعًا مشتركًا نحو الإنفاق السريع على كل من البنية التحتية المفيدة وكذلك المشاريع المسرفة الناجمة عن الفساد. تبع ذلك فترة عقدين، من حوالي 1980 إلى 2000، عندما شهدت معظم الدول العربية تطورًا اقتصاديًا غير منتظم يعكس تذبذب دخل النفط والغاز والفساد المتزايد باستمرار في البلدان التي لم تقم أبدًا ببناء اقتصادات منتجة ومتوازنة. في الوقت نفسه، شعرت بعض الدول مثل العراق وسوريا وتونس والسودان وليبيا بألم وقوعها تحت حكم ديكتاتوريات عسكرية فردية أثبتت عدم كفاءتها في كل من العمل العسكري والتنمية الوطنية.
بالطبع، بحلول أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، اندلعت تمردات المواطنين العفوية في جميع أنحاء نصف المنطقة. نجح بعضهم في إسقاط الطغاة—خصوصًا في تونس ومصر—بينما تحولت بعض هذه المظاهرات إلى حروب أهلية—في سوريا وليبيا واليمن لاحقًا—التي سرعان ما اجتذبت تدخلًا إقليميًا ودوليًا. وعلى الرغم من الانتكاسات المختلفة، تستمر هذه الموجة من الانتفاضات والثورات إلى اليوم—باستثناء في المشيخات الصغيرة الغنية بالنفط في الخليج—لأن غالبية المواطنين يئسوا من عيش حياة كريمة أو حتى عهد مستقبلي مشرق لأبنائهم. لقد شهد السودان والجزائر والعراق—ولبنان أيضًا—عامين أو أكثر من الاحتجاجات الشعبية المستمرة، ولكن في معظم الحالات مع وجود إشارات قليلة أو قد تكون منعدمة على تخلي النخب الحاكمة عن السلطة التي احتكرتها منذ فترة طويلة.
على عكس الدول العربية الأخرى التي شهدت هذه الموجات الاحتجاجية، لم يكن لدى لبنان حكومة مركزية قوية تحتكر السلطة وتهيمن على جميع جوانب الحياة الوطنية، من السياسة والاقتصاد إلى الأمن والإعلام وحتى الثقافة الشعبية والفنون. وبدلًا من ذلك، فقد تحطّم لبنان بسبب استمرار نظام تقاسم السلطة الطائفي الحالي الذي يحكم البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990. وفي الحقيقة، فإن نظام تقاسم السلطة هذا هو في الواقع نظام استحواذ السلطة من قبل أمراء الحرب من مختلف الطوائف، مدعومين بأقوى فاعل في الدولة: حزب الله. في السنوات القليلة الماضية، قام القادة الطائفيون في لبنان بشكل جماعي بتقليد العديد من الدول العربية الأخرى، التي لا تسمح نخبها العميقة الجذور بمشاركة سياسية جادة، وتحرس مصالحها بصورة متعصبة.
النتيجة هي الأزمات المتعددة في المصارف والعملات الأجنبية والمالية التي تركت الثقافة والاقتصاد النابضين بالحيوية في لبنان كهيكل عظمي. النخب في بيروت التي ترفض التزحزح في وجه الاحتجاجات المستمرة في الشوارع والانتقادات الشعبية—تمامًا مثل النخب في بغداد أو الجزائر—سلبت لبنان بشكل كامل وحطمت بنيته التحتية. يظهر الدليل في شوارع بيروت من خلال أكوام القمامة المتراكمة وانقطاع التيار الكهربائي المستمر وأنقاض ميناء المدينة. وبعد ما يقرب من عام من الانفجار المدمر في الميناء في أغسطس/آب الماضي، تعرضت التحقيقات التي أجراها القضاة والمدعون العامون اللبنانيون، والتي حددت المسؤولين الذين سيُحاكمون أمام المحكمة، للمنع أو الإعاقة أو التأجيل بشكل متكرر من قبل الجهات الفاعلة في قطاع الأمن والرئاسة والقضاء والبرلمان. تضاعفت أسعار كل شيء تقريبًا في البلاد ثلاث مرات خلال العامين الماضيين حيث تستمر قيمة الليرة اللبنانية في الانخفاض كل أسبوع.
يعيش حوالي 60 في المائة من اللبنانيين الآن في حالة فقر، ما يجعل البلاد أقرب إلى المتوسط العربي البالغ 70 في المائة تقريبًا من المواطنين في العالم العربي الذين هم فقراء أو معرضين للفقر، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة. وانعكاسًا لما يحدث على الصعيد الإقليمي، يواصل اللبنانيون المعوزون الخروج في احتجاجات عامة مستمرة ومريرة—لدرجة أن المتظاهرين الآن يحملون حبال مشنقة كرمز لرغبتهم في شنق جميع القادة. يغادر الأثرياء وحاملو جوازات السفر الأجنبية بشكل دائم إلى بلدان أخرى، لكن الغالبية العظمى لا تستطيع ذلك. إنهم يعانون ويشعرون بالغضب ويحملون مشاعر أخرى مثل الخوف والذل والعجز، وفي نهاية المطاف التجريد من الإنسانية على أيدي قادتهم.
يواصل المتظاهرون والمواطنون العاديون على حد سواء البحث عن طريقة للخروج من هذه الصدمة الوطنية، بعد أن عجزوا عن الحصول على أي تنازلات من أولئك الموجودين في السلطة عن طريق الاحتجاجات المستمرة أو الضغط الأجنبي. دفعت انتصارات المعارضة والإصلاحيين في الانتخابات الأخيرة للنقابات والجمعيات المهنية العديد من اللبنانيين إلى الحشد لانتخابات 2022 البرلمانية والرئاسية كوسيلة لطرد الحكام الحاليين. ومع ذلك، فهم جميعًا يدركون أيضًا أن هؤلاء الحكام أنفسهم يمكنهم ببساطة تأجيل الانتخابات، كما فعلوا من قبل.
في غضون ذلك، انطلقت روح قوية من التضامن المجتمعي والمساعدة الذاتية، حيث يساعد اللبنانيون في جميع أنحاء البلاد بعضهم البعض كيفما أمكنهم ذلك، من خلال تقاسم الطعام والماء والأدوية والكهرباء والبنزين والسكن. يرى الكثيرون ذلك كمثال يحتذى به لكيفية عمل حكومة حقيقية ولائقة. لكن البعض الآخر يخشى أنه من خلال تلبية بعض الاحتياجات الملحة الآن، فإن هذا التضامن المجتمعي سيُخرج الحكومة من مأزقها، وبالتالي تتمكن من تأجيل أي إصلاحات.
لبنان، مثل العديد من المجتمعات العربية الأخرى اليوم، هو في منطقة جديدة غير مألوفة حيث أصبحت الحياة لمعظم مواطنيه صراع يومي في سبيل الحصول على الأساسيات مثل الطعام. ولا توجد انفراجة في الأفق. يبدو أن بقية العالم، بالنسبة لمعظم اللبنانيين، لا يهتم بالوضع القائم، أو حتى في بعض الحالات يدعم بعض الزعماء الطائفيين في النخبة الحاكمة المسؤولة عن انهيار لبنان. يلعن اللبنانيون الآن، مثلما هو حال معظم المجتمعات العربية الأخرى، الطبقة السياسية التي جعلتهم يعانون بهذه الطريقة، ويحاولون التكيف مع الوضع قدر استطاعتهم. كما يواصلون البحث عن المفتاح السحري الذي سيفتح يومًا ما الباب لمستقبل أفضل. إنهم يصرون على قدرتهم في أن يصبحوا مواطنين عرب يحددون قيمهم وحقوقهم وسياساتهم الوطنية—للمرة الأولى، ربما، منذ ولادة نظام الدولة العربية الحديث قبل قرن من الزمان.