أندرو فاراند هو زميل رفيع غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي وزميل زائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. عاش في الجزائر من 2013 إلى 2020 وهو مؤلف كتاب "الحلم الجزائري: الشباب والبحث عن الكرامة."
English
تواصل صدمة غزو روسيا لأوكرانيا في إرسال تموجات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إلى بعض الأماكن غير المتوقعة. وفي الجلسة الخاصة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، كانت الجزائر من بين 35 دولة امتنعت عن التصويت رداً على قرار يدين "العدوان الروسي على أوكرانيا" ويطالب روسيا بسحب قواتها فوراً. وردد السفير الجزائري هذا التصويت ببيان فاتر عزز فيه "الجهود والدعوات الدبلوماسية الرامية إلى تهدئة الوضع الحالي واعتماد الحوار".
ربما بدا امتناع الجزائر عن التصويت مفاجئاً، كونه آتياً من أمة كانت تفخر ذات يوم بأنها قائدة النضال العالمي المناهض للاستعمار. ففي نهاية المطاف، ألهمت حرب التحرير الدموية التي دامت ثماني سنوات ضد فرنسا وانتهت في عام 1962 صراعات مقاومة مماثلة في جميع أنحاء العالم. بعد استقلالها، ساعدت الجزائر بشكل مباشر الحركات المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء أفريقيا وخارجها، واكتسبت الجزائر العاصمة لقب "مكة الثوار". في السنوات الأخيرة، شجبت الحكومة الجزائرية التوغلات الأجنبية في العراق وليبيا ومالي، وتواصل دعم مطالب الصحراء الغربية بالاستقلال ضد المغرب المجاور. فهي تدافع بضراوة عن سيادتها، وتنتقد أي تدخلات من القوى الخارجية.
ولكن مع تصاعد الحرب السريع في أوكرانيا، فإن التراث الجزائري المناهض للإمبريالية يقابله روابط تاريخية قوية مع روسيا. ومع ذلك، فإن الجزائر، وهي عضو مؤثر في حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، ارتبطت بعلاقات وثيقة بالاتحاد السوفيتي، حيث تدرب العديد من قادتها السياسيين والعسكريين. وخلال العقدين الماضيين، استحوذت روسيا على نحو ثلاثة أرباع مشتريات الجزائر من الأسلحة. وقد ألغت موسكو مليارات الديون الجزائرية، وكانت من بين الأماكن الأولى التي لجأ إليها قادة الجزائر للحصول على الدعم عندما اندلعت حركة احتجاج حاشدة في عام 2019، مما اضطر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي خدم لفترة طويلة إلى الإستقالة. وعلى سبيل المقارنة، فإن روابط الجزائر بأوكرانيا أقل قوة بكثير.
وفي حين تعتبر الجزائر هذه العلاقة الخاصة مع روسيا مفيدة، فهي ليست بلا حدود. وقد رُفضت مراراً وتكراراً محاولات روسيا لإنشاء قاعدة بحرية في الجزائر، وتباطأت مبادرات تنويع الروابط الاقتصادية بين البلدين خارج نطاق الأسلحة – بالرغم من تعميق الجزائر لعلاقاتها الاقتصادية مع أوروبا، ولا سيما في قطاع الطاقة. وعلى الصعيد الأمني، فإن علاقات الجزائر مع القوى الغربية مختلطة أيضاً. وعلى الرغم من أن الجزائر ليست من بين الحلفاء الرئيسيين غير الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، إلا أنها شاركت على مدى عقدين من الزمن في الحوار المتوسطي لحلف الناتو. كما توسع تعاون الجيش الجزائري مع نظرائه الغربيين حول مكافحة الإرهاب منذ 11 سبتمبر/أيلول، لكن الجزائر قاومت بثبات الضغوط الغربية لزيادة مشاركتها في العمليات الأمنية ضد حركات التمرد الإسلامية في الساحل.
متشككين في النوايا الغربية، تقبل العديد من الجزائريين في البداية الرسائل الروسية حول غزو أوكرانيا، بما في ذلك مزاعم الرئيس فلاديمير بوتين بأن حلف الناتو والغرب قد أشعلا الصراع. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، انضم البعض أيضاً إلى الجوقة التي تتهم دول حلف الناتو بازدواج المعايير العنصري في تعريفها ل "الحرب العادلة" وسياسات اللاجئين بشكل مختلف بالنسبة للأوكرانيين عن العرب والمسلمين. وكان الإعلان عن مقتل طالب جزائري في خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، في الأيام الأولى من الحرب، بمثابة تذكير للكثيرين بأن هذه ليست معركة الجزائر.
يساعد هذا المزيج من العوامل المحلية والدولية، والتاريخية والمعاصرة، في تفسير امتناع الجزائر عن التصويت في الأمم المتحدة كمحاولة لتجنب الإساءة إلى أي من الجانبين في هذا الصراع شديد الخطورة. ولكن على الرغم من كل الحسابات المعقدة التي فرضتها على الدبلوماسيين الجزائريين في الأسابيع الأخيرة، فإن تداعيات الأزمة الأوكرانية على التوقعات الاقتصادية الفورية للجزائر كانت أكثر إيجابية بشكل واضح. ومع ذلك، قد تصبح هذه الصورة الأولية الوردية أكثر اختلاطًا في الأشهر المقبلة.
وقد بدأ التأثير الأكثر وضوحاً وفورية على الجزائر حتى قبل أن تشن القوات الروسية غزوها في شكل ارتفاع أسعار الطاقة. وكانت الجزائر، التي جمعت ثلثي إيرادات الدولة من مبيعات النفط والغاز قبل عقد من الزمن، قد شهدت انخفاض هذا الرقم إلى أقل من 50 في المائة في الآونة الأخيرة، بسبب انخفاض الأسعار وارتفاع تكلفة إعاناتها العامة الواسعة النطاق، التي بلغت قيمتها 17 مليار دولار في عام 2020. وبحلول نهاية عام 2021، تضاءلت احتياطياتها من العملات الأجنبية التي كانت وفيرة في السابق، ولم تعد كافية لتغطية واردات العام المقبل.
وفي ديسمبر/كانون الأول، وقع الرئيس عبد المجيد تبون قانوناً مالياً جديداً زاد الضرائب ووضع الأساس لخفض الدعم. ولكن مع ارتفاع أسعار النفط والغاز بالتوازي مع التوترات في أوكرانيا، شهدت السلطات الجزائرية تحول حظوظها، وسرعان ما تخلت عن التخفيضات. وفي منتصف فبراير/شباط، ألغى تبون معظم الزيادات الضريبية وإصلاحات الدعم، ثم كشف النقاب عن راتب جديد للبطالة للشباب العاطلين عن العمل.
وفي أعقاب غزو روسيا، ارتفعت أسعار الطاقة أكثر. يحظى النفط الجزائري الآن بأسعار تزيد عن خمسة أضعاف قيمته في أبريل/نيسان 2020، عندما تراجعت الأسعار خلال الجائحة. ويأمل المستوردون الأوروبيون أن تساعد الجزائر في سد الفجوة الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، والتي قد ينتهي قريباً وضعها كأكبر مزود للغاز الطبيعي والنفط في القارة. وتزود الجزائر أوروبا بالفعل بالطاقة، وتغطي ما يقرب من 12 في المائة من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز، بما في ذلك عبر خطوط الأنابيب إلى إسبانيا وإيطاليا، وثلاثة في المائة من واردات النفط في عام 2020. وفي هذا الأسبوع فقط، ترأس وزير الخارجية الإيطالي وفداً إلى الجزائر العاصمة، وعاد بصفقات جديدة لشراء المزيد من الغاز الجزائري. ويأمل آخرون أن يحذوا حذوهم.
وإلى جانب الطاقة، ستؤثر الحرب في أوكرانيا كذلك على الاقتصاد الجزائري من خلال أسعار المواد الغذائية، وخاصة الحبوب، التي وصلت إلى مستويات قياسية في الأيام الأخيرة. وتمثل أوكرانيا وروسيا معاً ما يقرب من ثلث صادرات القمح في العالم، والتي قد يتعذر الوصول إلى الكثير منها الآن بسبب القتال العنيف في أوكرانيا والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا. وقد شهدت الجزائر، وهي واحدة من أكبر مستوردي القمح في العالم، استياءً شعبياً في العام الماضي بسبب تضخم أسعار المواد الغذائية ونقص السلع الأساسية.
في السنوات الأخيرة، كانت الجزائر تستورد القمح من مزيج من الموردين الأوروبيين والأمريكيين الشماليين، وعلى رأسهم فرنسا. ولكن بعد الانهيار الدبلوماسي في العام الماضي، تخلت الجزائر عن الواردات الفرنسية واتجهت نحو روسيا. وقد رسم المسؤولون الجزائريون خططاً طموحة للحد من اعتماد البلاد على الحبوب الأجنبية، لكن تحقيقها ليس مضموناً، لا سيما في ظل الجفاف الشديد على مستوى المنطقة. ومع تأرجح أسواق السلع العالمية بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، فإن وعود السلطات الجزائرية بأن الصراع في أوكرانيا "لن يؤثر" على إمدادات الحبوب الجزائرية يصعب تصديقه. وعلى الأرجح، قد يؤدي التدافع العالمي على الإمدادات الشحيحة إلى مزيد من الارتفاع في أسعار الحبوب وغيرها من الواردات الحيوية، مما يعوض جزئيا ًالمكاسب غير المتوقعة للجزائر من ارتفاع أسعار الطاقة.
وفي حين أن القليل من الأمور المؤكدة في هذه الفترة المضطربة، يبدو أن المسؤولين الجزائريين واثقون من أن الديناميكيات الجيوسياسية الحالية التي تعصف بأوروبا ستفيد وضعهم المالي، وبالتالي قدرتهم على الحفاظ على رقابة صارمة في الداخل. لقد كان استقرار النظام موضع تساؤل في الآونة الأخيرة. في عام 2019، احتج الجزائريون بشكل جماعي على ازدياد الفساد الصارخ ، وتقديم الخدمات العامة الرديئة، ورفض النخب الراسخة منذ فترة طويلة سن إصلاحات أو تقاسم السلطة. وبفضل الجائحة والحملة القمعية الشديدة التي شهدت سجن مئات النشطاء والصحفيين والقادة المدنيين ظلماً، أوقفت حركة الاحتجاج، المعروفة باسم الحراك، مظاهرات الشوارع في العام الماضي. بيد أن الإحباطات الشعبية التي أشعلت شرارة ذلك الحراك لا تزال قائمة.
وعلى النقيض من تفاؤلهم قصير الأجل، فإن العديد من الديناميكيات التي أطلقها غزو روسيا لأوكرانيا قد تؤدي الى إضعاف، وليس تعزيز، موقف النخب الحاكمة في الجزائر على المدى المتوسط والطويل. وعلى الرغم من الطلب الجديد على إمدادات الطاقة في أوروبا، فإن قدرة الجزائر على توسيع إنتاج الطاقة مقيدة بإرث من نقص الاستثمار وسوء الإدارة في قطاع النفط والغاز. في يناير/كانون الثاني، أعلن المسؤولون عن مجموعة من الاستثمارات المتعددة السنوات في البنية التحتية للطاقة واستخراجها، لكن تأثيرها لن يكون ملموساً لسنوات. ومن المرجح أن تكون إحدى ركائز جهود الحكومة لتوسيع الإنتاج المحلي هو التنقيب عن الصخر الزيتي، الذي أثار احتجاجات كبيرة عندما جرت محاولته سابقاً في 2015 و2020، مما أجبر السلطات على تعليق المشاريع.
يتوقع من المجتمعات المحلية المعنية بإمدادات المياه، والمهددة بالفعل بالجفاف والتصحر، أن تحشد قواها ضد مشاريع التنقيب مرة أخرى. وحتى لو تمكنت الجزائر من توسيع إنتاجها من الطاقة، فليس هناك ما يضمن زيادة الصادرات، حيث أن البلاد ملزمة أولاً لتلبية الطلب المحلي، الذي ارتفع في السنوات الأخيرة ومن المرجح أن ينمو أكثر.
ولا تزال خطط الحكومة لتلبية بعض الطلب المحلي من خلال الطاقة المتجددة في مراحلها الأولى وتتقدم ببطء. والأهم من ذلك أن استمرار التركيز على صادرات الطاقة على حساب قطاعات أخرى لن يؤدي إلا إلى ترسيخ اعتماد الجزائر المفرط والخطير على الهيدروكربونات، مما يجعلها عرضة لتقلبات السوق في المستقبل وغير قادرة على التغلب على الصدمات الأخرى، سواء كانت سياسية أو ناجمة عن المناخ أو غير ذلك.
وفي الختام، قد تعتقد السلطات الجزائرية أن اعتماد أوروبا المتزايد على النفط والغاز الجزائريين سوف يقلل من الضغوط الخارجية لتنويع الاقتصاد الجزائري واحترام حقوق الإنسان. ولكن الأزمة الأوكرانية أدت بالفعل إلى تحولات سياسية كبرى في أوروبا، ومن المرجح أن تؤدي إلى المزيد. وفي قطاع الطاقة، يبدو من المرجح شن حملة مضاعفة لاحتضان الطاقة المتجددة في مختلف أنحاء أوروبا والحد من الاعتماد على الأنظمة الاستبدادية مثل أنظمة روسيا.
وقد يستنتج الاتحاد الأوروبي أن استرضاء الحكومات غير الليبرالية لم يعد يستحق الثمن في أي قطاع، وأن يتبنى نهجاً أقل تعاملاً وأكثر مبدئية في سياسته الخارجية. ومن المؤكد أن مثل هذا التحول من شأنه أن يعقد العلاقات مع حكام الجزائر، لأنهم حساسون تجاة الاساءة المتصورة لسيادتهم. ولكن هذا قد يبشر بفصول جديدة في العلاقات بين الجزائريين والعالم الأوسع.