بعد سنوات من الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على العراق والذي تسبب كما هو معروف بمقتل مئات الآلاف من العراقيين الذين لقوا حتفهم نتيجة الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف والحملات العسكرية وغير ذلك من أعمال العنف، أجرى الباحثون محاولة لحساب العواقب المميتة للحرب والاحتلال بشكل أكثر دقة. قدّر أحد التحليلات الشاملة عدد الوفيات غير المباشرة من 3.6 مليون إلى 3.8 مليون حالة في مختلف أنحاء العراق والمنطقة التي نجمت عن "الحرب على الإرهاب" التي شنتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والتي تُعزى في المقام الأول إلى أربعة أسباب وهي: سوء التغذية والمرض والإصابة ووفيات الأمهات والمواليد الجدد، والنزوح الذي يعتبر عامل مشترك في بيئات الحرب وخاصة في العراق، حيث تحول الملايين من العراقيين أثناء الاحتلال الأميركي الكارثي إلى لاجئين، والذي يزيد أيضًا من تفاقم ضعف الناس أمام هذه الأسباب.
تعد الوفيات المرتبطة بالمعارك في أي منطقة حرب نشطة من بين أكثر التقارير التي يتم الإبلاغ عنها في وسائل الإعلام ويمكن التعرف عليها بسهولة على أنها مرتبطة بشكل مباشر بالصراع المسلح، حيث تكون بالنسبة للوكالات الإنسانية والمنصات الإعلامية العالمية بمثابة صور ومقاطع فيديو وشهادات مقنعة، ومع ذلك يُظهر تحليل النزاعات المسلحة على مر التاريخ أن هذه الوفيات لا تشكل سوى جزء بسيط من إجمالي عدد القتلى في الحرب. فعند تقييم النزاعات بعد عام 1990 نجد أن الوفيات غير المباشرة تمثل ما بين ثلاثة إلى خمسة عشر ضعفًا من عدد الوفيات الناجمة عن أسباب مرتبطة بالمعارك.
لذا لم يكن من المستغرب أن ينشر باحثون في أوائل يوليو/تموز (بعد تسعة أشهر من بداية ما يعتبر على وتيرة متزايدة بأنه "إبادة جماعية") دراسة قصيرة في المجلة الطبية البريطانية المرموقة "ذا لانسيت" حول إجمالي عدد القتلى الكبير المفاجئ في غزة، حيث أفاد كل من رشا الخطيب ومارتن ماكي وسليم يوسف أنه إذا كان العدد المعلن عنه والذي يبلغ نحو 38,000 قتيل دقيقًا فمن المرجح للغاية أن يكون عدد القتلى في نهاية المطاف "عند اعتماد تقدير متحفظ لأربع وفيات غير مباشرة لكل وفاة مباشرة" أقرب إلى 186,000 شخص. وبمقارنة هذا العدد بعدد السكان الإجمالي لغزة والذي يبلغ نحو 2.3 مليون نسمة فهذا يعني حوالي 8 في المئة من عدد السكان.
إن السكان الذين يعانون أصلًا من سوء التغذية والصدمات النفسية يتجمعون معًا في ملاجئ غير مزودة بالموارد الكافية مع ندرة فرص الحصول حتى على الرعاية الصحية الأساسية، ما يجعلهم تحت خطر شديد يتمثل بالوفاة أو الإعاقة التي كان من الممكن تجنبها بالكامل لولا الوضع.
- يارا عاصي
ورغم إدراك المؤلفين أن هذا التقدير مجرد تقدير تنبؤي في هذه المرحلة، فقد أخذوا في الحسبان عدة عوامل مؤثرة في تحليلهم بما في ذلك العوامل المذكورة أعلاه والتي تساهم في الوفيات الناجمة عن أسباب غير مباشرة. فسوء التغذية مرتفع بشكل استثنائي في غزة، حيث امتدت المجاعة حسب التقارير لتشمل جميع أنحاء المنطقة المحاصرة. وكذا تفشي الأمراض مع تقارير عن أمراض جلدية وأمراض الجهاز التنفسي إلى جانب تقارير مقلقة في الآونة الأخيرة عن رصد مرض شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي، مما يعني أن السكان باتوا يعانون منه. ومعدل الإصابة مرتفع بشكل لا يصدق بما في ذلك الإصابات المروعة الناجمة عن الانفجارات التي ينبغي أن تتلقى رعاية طبية شاملة على الفور ولكنها لا تتلقى أي رعاية تٌذكر نتيجة لنظام الرعاية الصحية المدمر في غزة. وأخيرًا ارتفاع معدلات وفيات الأمهات والرضع بشكل كبير بما في ذلك ارتفاع معدل المواليد الموتى بالإضافة إلى أن معظم المواليد في غزة يعانون من نقص الوزن بشكل خطير، وكثيرًا ما تعاني أمهاتهم من سوء التغذية والإجهاد الشديدين لدرجة لا تسمح لهن بإرضاعهم.
وفي الوقت نفسه فإن النزوح في غزة غير مسبوق بنسبة 90 في المئة من السكان، حيث وصل الأمر ببعضهم إلى اضطراره للنزوح أكثر من عشر مرات خلال تسعة أشهر فقط. كما أنه لم يعد لدى العديد من الفلسطينيين في غزة منازل يعودون إليها في حال تم التوصل إلى وقف إطلاق النار بشكل نهائي. أضف إلى ذلك أن السكان الذين يعانون أصلًا من سوء التغذية والصدمات النفسية يتجمعون معًا في ملاجئ غير مزودة بالموارد الكافية مع ندرة فرص الحصول حتى على الرعاية الصحية الأساسية، ما يجعلهم تحت خطر شديد يتمثل بالوفاة أو الإعاقة التي كان من الممكن تجنبها بالكامل لولا الوضع. وحتى على مستوى محاولة الحصول على بيانات دقيقة عن معاناة السكان فهم أيضًا من بين أصعب الفئات التي يمكن الوصول إليها.
وتزداد التقديرات تعقيدًا بسبب عجز وزارة الصحة في غزة عن جمع أي بيانات من أجزاء عديدة من القطاع بسبب تدمير البنية الأساسية ووفاة العديد من العاملين في مجال الصحة بسبب القصف الإسرائيلي. ومن المرجح أن العديد من الفلسطينيين يلقون حتفهم في منازلهم أو بمفردهم، دون الإبلاغ عن وفاتهم، حيث أن ما لا يقل عن ثلث الجثث التي تم العثور عليها في مختلف أنحاء غزة لا زالت مجهولة الهوية. ويظل عدد الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض مجهولًا تمامًا، حيث تشير التقديرات إلى أن عددها لا يقل عن عشرة آلاف.
ولكن القيود المفروضة على البيانات على الأرض تجعل النموذج الذي تم نشره في مجلة "ذا لانسيت" ذو معنى أكبر، وإن كانت البحوث المستقبلية لاستعادة الأحداث ستكون أكثر دقة. وبما أن إسرائيل سمحت لعدد قليل للغاية من الصحفيين الدوليين بدخول غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى جانب أن العاملين في المجال الإنساني القلائل الذين تسمح لهم إسرائيل بالدخول يجب أن يلتزموا بقواعد صارمة بشأن الحركة، فبالتالي لا توجد وسيلة تقريبًا للتحقق من حصيلة القتلى الحالية في غزة. أضف إلى ذلك أن الأرقام التي يجمعها الممثلون المحليون ليست غير مكتملة فحسب، بل إنها لا تعتبر ذات مصداقية من قِبَل نفس الكيانات التي ترتكب العنف ضدهم وتمكنهم منه، وبالتحديد الحكومتين الأميركية والإسرائيلية.
إنّ محاولة تشويه سمعة مجلة "ذا لانسيت" تتماشى مع الأسئلة الزائفة حول ما إذا كان يمكن الوثوق بوزارة الصحة في غزة على الإطلاق، هي مزاعم فارغة لا تستند إلى أي دليل.
- يارا عاصي
ولقد زعم الكثير من المنتقدين أن هذه محاولات مقصودة من جانب إسرائيل وحلفائها للتقليل من شأن عواقب ما يسمى بالحرب الإسرائيلية على حماس، حيث أن إثارة الشكوك حول عدد القتلى في غزة يحجب حقيقة مفادها أن عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين أعلى بكثير مما تزعمه إسرائيل، وأن الأضرار التي لحقت بالبنية الأساسية تنفي أي محاولة للتظاهر بأنها كانت أهدافًا عسكرية مشروعة، خاصةً وأن الساسة الإسرائيليين يحتفلون علنًا بإمكانية الاستيلاء على أراضي غزة لصالح المستوطنين الإسرائيليين.
وتقدم التقديرات التي نشرتها منصات ذات مصداقية مثل مجلة "ذا لانسيت" فرصة لمعرفة حقيقة ما يحدث في غزة على مستوى السكان، وذلك إلى ما وراء القصص المروعة التي يرويها السكان المحليون على وسائل التواصل الاجتماعي وشهادات عمال الإغاثة بأن الظروف هناك هي من بين الأسوأ التي رأوها على الإطلاق في أي صراع بأي مكان.
وبالتأكيد، وكما هو الحال للأسف رغم العديد من الجهود الرامية إلى إضفاء الصفة الإنسانية على الفلسطينيين أو تناول حقيقة معاملة إسرائيل لهم، قوبلت دراسة مجلة "ذا لانسيت" بالصمت من جانب العديد من الوسائل الإخبارية العالمية والتشكيك الصريح من جانب آخرين. وشملت الانتقادات المألوفة للغاية فكرة وضع الوفيات بالإجمال في قالب واحد على الرغم من التحذيرات المتعددة التي قدمها مؤلفو الدراسة، فضلًا عن الافتقار إلى التمييز بين الوفيات المدنية والمقاتلين. وفي الوقت نفسه، فإن الخسائر الفادحة التي خلفتها هذه الحرب على المدنيين في غزة واضحة للعيان.
إنّ محاولة تشويه سمعة مجلة "ذا لانسيت" تتماشى مع الأسئلة الزائفة حول ما إذا كان يمكن الوثوق بوزارة الصحة في غزة على الإطلاق، وهي مزاعم فارغة لا تستند إلى أي دليل. ففي نهاية المطاف، تم استخدام الأرقام التي قدمتها الوزارة وتم التحقق منها في كل الحروب السابقة في غزة، بل إنها تتطابق إلى حد كبير مع تقديرات إسرائيل ذاتها. وبدلًا من الاستمرار في الدفاع عن تصرفات إسرائيل التي أصبحت غير قابلة للدفاع عنها بشكل متزايد، فإن هذه الأسئلة تشكل محاولة أخرى مجددًا لصرف الانتباه عن حقيقة مفادها أن إسرائيل لا تدافع عن نفسها فحسب، بل إنها تقوم بقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتزعم صراحة أنها تدمر أراضيهم أو تستولي عليها.