سلمى دباغ محامية وكاتبة روائية بريطانية فلسطينية تعيش في لندن. هي مؤلفة رواية "خارج غزة" (بلومزبري، 2011).
English
استلهمت هذه القصة من قصة قصيرة كتبها رالف إليسون بعنوان "حفلة في الميدان" حول اعدام غوغائي في عمق الجنوب، كتبها من وجهة نظر ولد أبيض من سينسيناتي، والتي لم تنشر حتى عام 1997، ثلاثة سنوات بعد وفاة إليسون.
خلال الفترة التي كتبت فيها "في السوق" في عام 2006، كنت أعيش في البحرين وأقرأ روايات عن عنف المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. قيل لي أن تقمص كاتبة بريطانية-فلسطينية لشخصية يهودية سيكون أمراً محفوفاً بالمخاطر.
فعلت ذلك على أي حال، ولكني تحفظت على نشرها ثم استعجلت للمشاركة في مسابقة جائزة ديفيد تي كي وونغ الدولية للقصة القصيرة التابعة لمنظمة القلم الدولية PEN. ترشحت القصة للجائزة الدولية من بين جميع المشاركات الإنجليزية.
كما اختارت الكاتبتين ماغي جي وبيرناردين إيفاريستو القصة لإدراجها في مجموعة من الكتابات الجديدة التي نشرها المجلس الثقافي البريطاني وغرانتا. قيل لي في وقت لاحق أنه كان هناك بعض المقاومة لإدراجها في المجموعة. بعض الإشارات قد تجعل القصة قديمة قليلاً، لكن العنف والاضطهاد في صميم القصة لم ينحسر مع الوقت.
*****
يأخذنا وقت طويل لنصل الى منزلهم من المطار. أول شيء يقوله لي هو أنني أتيت في وقت سيء. ليس "مرحباً" أو "هل كانت رحلتك لطيفة؟" أو أي شيء من هذا القبيل.
يخبرني أن التوقيت سيء بينما ينظر إلي وكأنني يجب أن أعرف ما الذي يتحدث عنه، لذا أومئ برأسي وأفكر أنني سأحظى بوقت جيد. أنا الذي وصل هنا وليس ذلك الأحمق ديفيد ليفنشتاين، وأنا الذي يملك مئتي جنيه من أموال السفر في جيبه، وليس هو.
العم إيب – حسناً ، بِن في جمعية عليا طلب مني أن أدعوه "العم" لكنه لا يشبه أعمامي البتة، لديه لحية طويلة وبندقية ضخمة يحملها على ظهره.
أراني بِن صورة إيب قبل أن أغادر، ولكنه بدا مختلفاً لأنه كان يبتسم في تلك الصورة ولم يرتد النظارات، يشبه بابا نويل نوعاً ما. أنا معجب بالبندقية وأسأل إذا كان بإمكاني أن أراها فيقول ليس الآن لأنها محشوة ولكن عندما نصل إلى بيتهم أستطيع أن أجربها في المرمى الخاص بهم. يا للروعة ، أفكر، انتظر حتى أخبرهم بذلك بعد عودتي، ثم أسأله إن كان يخدم في الجيش فيجيبني بحدة أنهم حفنة من الخونة الذين لا يدافعون عن أي شخص، وأن عليك أن تثق بنفسك فقط وبني جلدتك. أقرر عدم طرح الكثير من الأسئلة، وأجد صعوبة في ذلك لأن كل شيء جديد ولأنني لم أسافر خارج لندن على متن طائرة من قبل.
بالكاد أخبرني بِن شيئاً عن عائلة إيب. فقد خطط لي أن أذهب إلى مزرعة كيبوتس لكن خطته فشلت ثم عرضت مجموعة إيب أن أمكث عندهم. بدا بن متوترا نوعا ما عندما أخبرني، وكأنه يفعل شيئا لا ينبغي عليه القيام به، وظل يقول: "هؤلاء الناس مخلصون جداً لبلدهم، هل تفهم؟" وفي البداية اعتقدت أنهم مثل يونيون جاكس والجبهة الوطنية وفزعت قليلا حتى أدركت أنهم غير موجودين هناك على أي حال ولن يطلبوا أن يعيش معهم شاب يهودي. شعرت بالارتياح قليلا لعدم ذهابي إلى مزرعة. أنا لا أحب الخنازير وكل ذلك الوحل.
أردت أن أجلس في المقدمة، فيخبرني إيب أن أجلس في الخلف ويضع البندقية على المقعد الأمامي. يمتلك إيب لكنة تلفزيونية أمريكية، مثل الرجال الذين في البرنامج الذي تجده جدتي مضحكاً جداً "تاكسي، وأريد أن أسأله هل هو أمريكي لكني لست متأكداً أنه سيعجبه هذا السؤال أيضاً.
بقينا على الطريق السريع الذي لا يختلف كثيرا عن الذي في وطني، فقط أكثر سخونة واصفراراً. هناك الكثير من الإعلانات الكبيرة لفتيات مبتسمات وهن يأكلن الزبادي مع كتابة عبرية. لا يوجد أحد بالأرجاء لأنها السادسة صباحاً. يتغير كل شيء حين نصل الى التلال الصحراوية، كما هو الحال في إنديانا جونز، ولكن لا يزال الصباح باكراً وواهناً ولا تظهر سوى ظلال التلال. ثم نأتي إلى مكان حيث كل هؤلاء الرجال يقفون في طوابير على جانب الطريق بالقرب من مقصورات فيها شرطة مثل الذين في المدينة، إلا أن لديهم رشاشات عوزي قصيرة ونجمات ديفيد صغيرة على لباسهم الرسمي.
هناك أيضاً المكعبات الاسمنتية الكبيرة في الطريق التي تشبه تلك التي رأيتها على الشواطئ مع جدتي، حينها أخبرتني أنها بنيت خلال الحرب لمنع الألمان من الدخول. كما قلت، كل هؤلاء الرجال يقفون هناك وحسب، وخلفهم حركة مرور كثيفة. إنهم أول أشخاص أراهم منذ مغادرتنا المطار. لا أحد يتحدث إليهم وهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض. هم يشبهون الأتراك أسفل طريق جرين لينز بشواربهم المتدلية والأحزمة على سراويلهم التي تبدو مغبرة بعض الشيء وحزينة المظهر. أسأل: "ما هذا؟" ويجيبني باقتضاب: "نقطة تفتيش. العرب".
حسناً، لا بأس، هو لا يحب الكلام.
يفاجئني بسؤاله عن البار متسفا (حفل بلوغي) ، وأحاول أن أغير الموضوع لأني خائف أن يكشف أمري شخص ما لأني كتبت بعض الأشياء على يدي وغششت في قراءة العليا ولا يمكنني أن أفعل ذلك مرة أخرى.
يقول إنها فكرة عظيمة، هجرتَي العليا هذه كي نتواصل و نصبح يهوداً كاملين مع البار متسفا، وأن نتقدم في السن وأن نأتي الى إسرائيل، وأن نقابل اليهود الذين قاموا بالنوع الثاني من العليا بالهجرة إلى إسرائيل. أقول له "بالتأكيد"، لأنني ما زلت فرحاً بسبب المال في جيبي وركوب الطائرة. لقد أعجبني الإقلاع أكثر من الهبوط.
مذهلة الطريقة التي ترتفع بها الطائرة حين تقلع، مثل دراجة نارية تنعطف حول زاوية حادة. ثم يقول أن الكثير من اليهود في الغرب يتزوجون من الغوييم (الأغيار)، نصفهم تقريباً، ثم ينسون ما يعنيه أن تكون يهودياً، لذا من الجيد أن آت إلى هنا وأر ما يعنيه أن يكون المرء يهودياً. أوافقه الرأي ثم أقول: "ماذا تعني كلمة الغوييم؟" فيستدير نحوي ويحدق في وجهي وكأنني غبي و يصرخ: "أنت لا تعرف من هم الغوييم؟ شخص غير يهودي مثل هؤلاء العرب القذرين". يسألني: "لن تتزوج غوي، أليس كذلك يا فتى؟"
أفكر في الرجال المغبرين على جانب الطريق وأقول: "لا". بعد ذلك أبدأ في التفكير بالفتيات في صفي وأعتقد أن الشخص الوحيد اليهودي هي تلك روث ذا توث وايزمان ولا أريد أن أتزوجها أيضاً، كانت ترتدي جوارب قبيحة مع لفائف الدانتيل. أتساءل إن كانت سوزي بلاك من الغوييم. ذلك الوغد آدم بلاندفورد يقول أن لا أنظر إليها لإنها أعلى من مستواي، كان يجدر بي أن ألكمه. لن يقول ذلك عندما يسمع أنني أمارس الرماية بالبندقية.
أرى امرأة مسنة تسير على جانب الطريق وتحمل إبريقاً على رأسها، وترتدي فستانا أسود طويلا مع زهور حمراء مخيطة على الهدب، وأسأل "ما هذا الذي على رأسها؟" فيجيب: "الماء"، وأعتقد أنه رائع جداً لأنه يشبه الذهاب إلى أفريقيا أو شيء من هذا القبيل، مثل شقيق آدم بلاندفورد الذي ذهب إلى المكسيك لمدة عام وعاش مع عائلة ريفية في التلال حيث أكل الديدان وأشياء أخرى، وأتساءل عما إذا كنت سأضطر لحمل الماء في منزل إيب.
نتمهل عندما نمر ببلدة حيث المنازل قريبة من الطريق الذي يضيق شيئاً فشيئاً. تفتح بعض المحلات التجارية أبوابها، ويسكب الرجال المياه على الأرصفة ويمسحونها. أرى بعض النساء اللواتي لا بد أن يكن مسلمات لأن رؤوسهن مغطاة مثل اللواتي تراهن حول مسجد وايتشابل. أحدهن لديها أطفال صغار ولكن حالما ترى سيارتنا تدفعهم خلفها فلا نراهم بعد الآن.
كنت على وشك أن أسأل إيب عما إذا كان رآها تفعل ذلك، فنسمع صوت ارتطام حجر بالزجاج الأمامي، إنه يشبه الصوت الذي تسمعه حين تقود بسرعة كبيرة على الحصى، ويقول: "العرب الأوغاد!" وشيء آخر باللغة العبرية التي لا أفهمها بينما يتكئ على مقعد الراكب. الزجاج الأمامي يبدو بحالة جيدة بالنسبة لي ولكن إيب يسير ببطء شديد، وينظر نحو المنازل ولكن الجميع رحلوا حتى المرأة وأطفالها. كلهم اختفوا مثلما تختفي الشخصيات في الرسوم المتحركة، ثم يسرع ونخرج من هناك في ثوان.
يقول إيب: "هؤلاء السياسيون اللعينون!" وأضحك لأنه أمر جميل أن تسمعها من شخص بالغ وهو يتحدث إليك. لقد جن جنون بن في الجمعية حين تفوهت بكلمة "اللعنة" أمامه، والشخص البالغ الآخر الذي يشتم حين يتكلم معي هو السكير قرب المدرسة الذي يجعجع: "اللعنة عليك، اللعنة، اللعنة" في كل مرة يقترب أحد من مقعده.
"كان من المفترض أن يبنوا لنا طريقا ًحول تلك القرية لكنهم يستمرون في تغيير رأيهم، سوف يضحون بنا كالحملان بغبائهم. ينبغي عليهم أن يهدموا البيوت فوق رؤوسهم". عندما يقول ذلك أتخيله وهو يقود جرافة صفراء عملاقة وهو غاضب هكذا نحو مجلسي البرلمان، يمكنك رؤيته وهو يفعل ذلك.
لا نتحدث حتى بقية الطريق. الجو حار داخل السيارة لأن الشمس تسطع عبر الزجاج الأمامي علينا، وأتمنى لو أنني لم أرتد تي شيرت تومي هيلفيغر لأنه سوف يتلف اذا تعرقت. المدخل الى المكان الذي يعيشون فيه غريب حقاً.
يستمر الطريق حتى أعلى التلة، والتلة مسيجة تماماً بسور أعلى من الجدران حول سجن هولواي وهناك أسلاك شائكة ملفوفة حول القمة. هناك أبراج حراسة عليها كشافات بين الحين والآخر موزعة حولها وعليها سلالم، تبدو مثل بيوت الأشجار للكبار. نتوقف من أجل الحراس الذين يلوحون لنا أن نعبر حالما يرون إيب، مما يجعلني أفكر في فيلم "الهروب الكبير". أسأل إذا كان بإمكاني الصعود إلى برج الحراسة ويقول إيب: "لا" وينظر إلي وكأنني بدأت أغضبه.
المكان مختلف حين تدخله، مثل عالم آخر. هناك الكثير من المنازل ذات السقوف الحمراء الشبيهة بمنازل الدمى المتباعدة بشكل كبير، ولديهم مروج كبيرة ورشاشات مياه وبرك سباحة! كأن كل شخص يمتلك مسبح خاص به، إنه المكان الذي يحمل فيه الناس أكياسا بنية مليئة بمواد البقالة ويقولون: "عزيزتي، لقد عدت الى المنزل"، ويلعب الأطفال في الشوارع طوال اليوم. وأعتقد أنه أمر جيد.
يخبرني إيب أن من بين أطفاله الخمسة لديه فتيان قريبين من عمري موجودين الآن في المدرسة الصيفية يشيفا، وأنه يجدر أن أذهب أنا أيضا لكنهم لم يتمكنوا من الحصول على مكان في الوقت المناسب، لذلك فقط ابنته تمارا التي تكبرني قليلاً والطفل الرضيع في المنزل. هذا الخبر مخيب للآمال لأن بن أخبرني أنه سيكون هناك أولاد في مثل عمري، لكنني سعيد لأنه لم تكن هناك أماكن في اليشيفا، مستحيل أن أعود إلى المدرسة في العطلة.
هنالك مجموعة من الرجال ينتظرون إيب في منزله حين نصل، يبدون مثله لكن بعضهم أكثر نحافة ويشبهون المثقفون. جميعهم يحملون البنادق على ظهورهم كما فعل هو في المطار. يتظاهرون بعدم رؤيتي بينما نقترب من الباب، على الرغم من أنني أرى إيب يتحدث عني ويوجه إبهامه نحوي. أحدهم يسحب حقيبتي حين أمر بجانبه وأنا في طريقي الى المنزل ويقول: "اسمع، عندما تعود أخبر حكومتك أن تقدم لنا بعض الدعم. نعم، توقفوا عن كونكم عشاق العرب"، وجميعهم يضحكون لأن الطريقة التي سحب بها حقيبتي جعلتني أترنح قليلاً.
زوجة إيب، آدا، تبدو مثله تماماً. إنها سمينة ولامعة وترتدي منديلاً على رأسها مثل امرأة مسلمة وتي شيرت كبير مكتوب عليه عبارة "هل تتحدث معي؟" إنه أكبر منزل أعيش فيه حتى الآن، إنه كبير جداً لدرجة أنه يحتوي على أشياء مزدوجة، غسالتي صحون، وفرنين، ومغسلتين في المطبخ وغرفتي نوم لإيب وزوجته. ثم أقابل تمارا وأفكر، مت في غيظك يا آدم بلاندفورد! لأنها رشيقة للغاية. تشبه نجوم البوب المراهقون التي تعلق أختي صورهم على جدارها. تقول لي: "أجل ، مرحبا لايمي" ولا أعرف ماذا تعني، ولكنني سعيد حقاً لأنني ارتديت تي شيرت تومي هيلفيغر.
زوجة إيب تقول أنهم سيصلون وهل أريد الانضمام اليهم؟ لذا أتظاهر بأنني مرهق وأستلقي في غرفتي لبعض الوقت. لا توجد ملصقات جميلة في غرفة الأولاد التي أقيم فيها، فقط صورة ضخمة لمبنى قديم كبيرعليها عبارة "سنعود قريباً – معبد الملك سليمان" وأظن أنه ربما يكون فيلماً مثل أتلانتس. أجلس على السرير وأتحقق من سجل الطائرة الذي وقعه لي الطيار وأدرك أنني يجب أن آت إلى هنا وأعود ثماني مرات ونصف أخرى للحصول على شارة الطيران، وهو أمر محبط. أخلع قميصي وأنام قليلا في بقية ملابسي فوق الملاءات.
على الغداء يخبرني إيب مرة أخرى أنني أتيت في وقت غير ملائم وتوافقه آدا. لا أعتقد أن بإمكاني أن أسأل لماذا، فأقول: "منذ متى وأنتم تعيشون هنا؟"
تقلدني تمارا بصمت على الجانب الآخر من الطاولة ، وتقول آدا: "لقد تم استدعاؤنا إلى هنا قبل خمس سنوات لأداء واجبنا تجاه الله واخواننا اليهود"، ثم تنظر آدا إلي وتقول: "أراهن أن أمك سعيدة بوجودك هنا". تضغط بيدها على ذقنها عندما تقول هذا وأنا فقط أقول: "نعم". ثم يبدأ إيب وآدا بالتحدث معاً وكأنني لست موجوداً.
"لقد أخطأ الجيش بأخذ مسدسه، كانت جريمة قتل بكل بساطة – هم علموا أن العرب سيتعرفون عليه ويهاجمونه"، يقول إيب، وأسأل: "لماذا أخذوا مسدسه؟" وأشعر كأنني شخص في فيلم لرجال العصابات. يبدو إيب غاضباً مرة أخرى عندما يجيب: "لم يكن لديهم أي سبب. لا سبب لذلك" ويطرق الطاولة بأصابعه حين يتكلم. "لقد كان يدافع عن شعبه وأرضنا، قالوا أنه سبب المتاعب بسبب الجولات التي قام بها هنا، ولكن هذا هراء". أنا أضحك على ذلك لكن تمارا لا تنظر للأعلى وهي تمص السباغيتي من طبقها. لا أفهم ما قاله إيب لكنني أتظاهر بذلك، ويتجاهلني ثانية ويتحدث إلى آدا.
"قلت للرجال أن علينا أن نشك في العرب الذين أخذوه إلى المستشفى أولاً لكنهم أخبروني أن سجلاتهم نظيفة". لذا أقول: "إن العثور على عربي نظيف مثل العثور على خنزير كوشير (مباح أكله حسب الشريعة اليهودية)!" كلاهما يضحكان كثيراً وأضحك قليلاً أيضاً، لأنني أعرف أن الخنازير ليست كوشير.
"لكن يبدو أن قائد الجيش الجديد هذا سوف يقوم ببعض التغييرات هنا. لقد أخبرنا بالفعل أن حظر التجول قد بدأ مرة أخرى منذ الهجوم وسوف يستمر حتى الرابعة، ثم سيبدأ مرة أخرى في الساعة السادسة، لذلك إذا أردنا الذهاب إلى هناك، فعلينا أن نتحرك في الساعة الثالثة والنصف". ثم يقول لتمارا التي تنظر إليه الآن: "أتودين الذهاب إلى السوق يا عزيزتي؟" تبتسم ابتسامة عريضة وتقول: "أجل، رائع".
يسألها إيب: "هل تريدين أن تأخذي معك صديقك الجديد من لندن وتريه المكان؟"
أفكر في المائتي جنيه المطوية في ظرف داخل جيبي وأفترض ربما سيكون في السوق بلاي ستيشن 2 وهاتف خلوي مثل الذي يملكه آدم بلاندفورد، أو ربما، أفكر وأنا أنظر نحو تمارا، بعض الملابس الجميلة.
تقول تمارا: "بالطبع يا أبي، سنذهب مع آرون أيضاً".
"في حوزتي نقود انجليزية فقط"، أقول. "هيه، لا تقلق بشأن المال"، يقول إيب، وأتوقع أنني سأحصل على مكافأة.
قبل أن نذهب تمضي آدا وقتاً طويلاً وهي تضع واقي الشمس على وجه تمارا وذراعيها ثم تعطيني الأنبوب، ولكنني أضع القليل على يدي وأفركهما معاً ثم أعيده.
تقع البلدة أسفل التل، ونذهب جميعاً في موكب مع الكثير من السيارات والرجال الذين كانوا يقفون خارج الباب ويتحدثون إلى إيب عندما جئت، وبعض أطفالهم. هناك أعلام كثيرة تشعرك أن هناك احتفال، أو مهرجان أو شيء من هذا القبيل، سوى أن الجميع يحملون مسدسات، حتى الفتيان الذين في عمري.
في السيارة أحاول أن ألقي نكتة عن أسماء آرون وإيب وآدا التي تبدو كأنها من كتب الدكتور سوس للأطفال. أقول: " هل لديكم ثعالب في جواربكم أيضاً؟" فيغضب آرون ويظهر لي كل أسنانه المعدنية، ويقول لتمارا: "أعتقد أن صديقك الإنجليزي موسي Mussy"، وأسأل: "ما معنى موسي؟"
تقول تمارا: "الموسي هو يهودي لا يستطيع الدفاع عن نفسه. الموسي لا يستطيع الدفاع عن اليهود. اليهود الذين ماتوا في المحرقة جميعهم ماتوا لأنهم كانوا موسيين". لم يسبق لي أن ضربت فتاة مطلقاً، لكن فكرة أن فقدان جدتي لعائلتها في بولندا هو ذنبها أو ذنبي يجعلني أستشيط غضباً فلا أقوى على الكلام، ويخفق قلبي بشدة. وكأن هذا لم يكن كافياً، تقول: "الموسي جبان"، وأعلم أن إيب سمعها لأني أراه يبتسم في المرآة الخلفية.
تزداد خيبة أملي فور وصولنا إلى البلدة. إنها سيئة المظهر، تشبه المدينة التي مررنا بها حيث رأينا المرأة التي تحمل الماء. كل شيء مغلق أيضاً. كل ما يمكنني رؤيته هو مصاريع معدنية والكثير من الكتابات على الجدران، وصور لرجال ونساء وأطفال بالأبيض والأسود على الجدران مع كتابات تحتها أعتقد أنها باللغة العربية.
أحد هذه الملصقات مكتوب عليه كلمة شهيد "Martyr"باللغة الإنجليزية. أريد أن أسأل إيب عن هذه الكلمة لكنه يبدو جاداً فلا أفعل. أرى كلمات على الجدران كتبت برذاذ طلاء أحمر تقول 'اللعنة على إسرائيل' وأريد أن أريها لشخص ما ولكنني لا أفعل ذلك. هناك بعض الأعلام كذلك رسمت على الجدران ولا تشبه تلك التي لدينا، هذه ألوانها الأخضر والأبيض والأحمر والأسود مع خطوط ومثلث، وليس نجمة. المكان هاديء جداً، أستطيع سماع تغريد بعض الطيور في الأشجار وأزيز مكيف الهواء في سيارة إيب.
هناك صوت مصاريع ترتفع في ذات الوقت وبسرعة كبيرة، ويبدأ الناس في الخروج من المنازل. تبنى الأكشاك بلمح البصر، لن تراها ان طرفت عينيك مما يجعل الرجال في سوقنا يبدون كمجموعة من المتشردين. الرجال والنساء والأطفال يخرجون من المنازل والأزقة بينما تصل الشاحنات المحملة بالطعام – الخضروات والأشياء – والجميع محشورون في هذا المكان يبيعون ويشترون ويصرخون ولكن يبدون كأنهم على وضعية زري التشغيل والأمام معاً.
سياراتنا الجيب موجودة أسفل السوق بقليل. المكان يبدو مثل منصة المسرح، وكأن المتسوقين لا يروننا، أو فقط ينظرون نحونا بسرعة ويمضون. يبدو أننا جميعا ننتظر، وأفكر إذا كنا نريد فقط أن نمر من هناك، لماذا لم نفعل ذلك عندما كان المكان فارغاً وإذا كنا بحاجة لشراء الأشياء، لماذا لا نذهب الآن؟ أستطيع أن أرى الجيش على الجانب البعيد، حوالي ستة جنود يقفون أمام بعض سيارات الجيب عليها نجوم، ويحملون رشاشات عوزي، مثل تلك الموجودة عند نقطة التفتيش. بقربهم مجموعة عجيبة من الأشخاص يقفون بجانب سيارات جيب بيضاء. بعض النساء يرتدين الأسود، راهبتين وبعض الشباب والشابات يرتدون التيشيرتات وبناطيل الجينز. جميعهم يحملون لافتات وبعضهم يحمل كاميرات باهظة الثمن حول أعناقهم. الجميع يراقب المتسوقون.
يقول إيب: "اذهبوا" ونسمع أصوات بعض الأبواق ثم يهرع الجميع خارج السيارات. آرون وتمارا يصرخون في وجهي: "هيا، تحرك" وأتبعهم.
حين يرانا الناس قادمين، يحاولون فعل عكس ما فعلوه قبل قليل حين بنوا الأكشاك. يحاولون طيها مرة أخرى لكن ليس بالسرعة ذاتها. بعض الناس في مؤخرة الجمع يصرخون لأنهم لم يشتروا أي شيء بعد، ولكن قد فات الأوان. تغلق جميع المصاريع، وتشغل محركات الشاحنات وترمى الأشياء على ظهرها.
تمارا و صديقها المعدني الفم آرون يركضان أمامي باتجاه أحد الأكشاك التي لم تطوى تماما بعد ويرميان كل شيء على الأرض. للحظة أعتقد أنهما ربما اصطدما به عن طريق الخطأ، ثم أراهم ينتزعون بعض الأكياس من امرأة تتسوق ويرمون كل شيء فيها على الأرض ويدوسون على الخيار والطماطم. يلتقطان بعض الطماطم ثم يرشقانها على المتسوقين وكأنها لعبة كرات طلاء.
البالغون اللذين معنا يفعلون ذات الشيء لكنهم يستخدمون أيضاً بنادقهم لإيقاع الطعام على الأرض وتحطيم الأكشاك بأعقابها. هناك الكثير من الدفع والشد وأستطيع أن أرى فتىً على الأرض يرتدي بدلة رياضية خضراء زاهية يحاول التقاط بعض الخيار، لا أعرف كيف يمكنه أن يبقى هناك لأنني متأكد أنهم سيدوسون على أصابعه. يبدأ الرجال والنساء الذين يحملون اللافتات في التقاط الصور ويأتي الجيش ويمنعهم من الاقتراب أكثر. أسمع جنديا يصرخ بالعبرية، ثم يمسك الكاميرا ويحطمها على الأرض.
تفرغ الساحة بسرعة من المارة ويتحرك تمارا وآرون بعجلة فلا أعرف أين هما. حينئذ أرى تمارا تميل إلى الوراء وفي يدها حجر وأسمع صوته وهو يحلق في الهواء ثم يرتطم برأس رجل عجوز يرتدي ثوب طويل أبيض مع غطاء رأس أبيض، ثم يتدفق الدم من رأسه على ملابسه.
يجن جنون راهبة مسنة حين ترى ذلك وتصرخ في وجه إيب: "كيف يمكنك أن تفعل هذا؟ كيف يمكنك أن تدع أطفالك يكبرون كقتلة؟ هل تعتقد أن هذا ما يأمر الله به؟" يقترب منها، اللعنة، لا أصدق ما رأيت. يصفعها على وجهها ويقول: "اخرسي أيتها النازية". هذه المرأة أكبر من جدتي، من الصعب جداً تذكر ما حدث بعد ذلك لأن الكثير من الأمور كانت تجري بسرعة. تحاول مجموعة الراهبة الاعتناء بها والصراخ على الجيش باللغة العبرية. أتعرف على الطفل ذي البدلة الرياضية الذي كان على الأرض، واذا به يقف ويقذف حجراً على رأس إيب. يا إلهي، كم هو شجاع. إنه صغير ونحيف وأصغر مني بينما إيب يحمل مسدسه.
في تلك اللحظة يبدأ الجيش بالتحرك، بنادقهم تصدر صوت كيرتشانك، كيرتشانك وأفكر اللعنة! اللعنة! يصعب التفكير بطريقة صحيحة حقاً. أفكر "يجب أن أبتعد من هنا" وصوت في رأسي يردد "اركض! اركض!"
لذا أركض عبر الساحة لأنني أعتقد أن هناك مكان يمكنني أن أختبأ فيه، والفتى يركض في ذات الطريق ويتجاوزني. هو سريع كالنمس وأنا لا أعرف لماذا أتبعه ولكنه يبدو كأنه يعرف إلى أين هو ذاهب ، المكان يشبه المتاهات في لعبة "لصة القبور" Tomb Raider، الأزقة ضيقة وجدران المنازل مع نوافذ مغلقة على كل جانب. الجنود أصبحوا خلفي ويبدون مثل الجنود في فيلم "المدمر" Terminator سيقانهم كبيرة وثقيلة وتتأرجح من الورك.
إنهم مخيفون ويبدو أن هذا الفتى يعتقد أنه يستطيع خداعهم، إنه يقفز ويهزأ بهم، ويمد رأسه من خلف الزوايا، ويرشقهم بالخيار ويشتمهم ويسخر بهم. إنه يتصرف كأنه يلعب لعبة. سأخبرك بأمر، إنه ليس جباناً، لكنني لن أجعل الأمر لعبة إذا طاردني هؤلاء الرجال في زقاق ما، مستحيل. سأكون هناك وفي يدي منديل أبيض، أنا.
أجد بعض الدرجات على جانب متجر وأصعد الى مكان منخفض السقف. عندما أصل هناك لا أر الفتى ولكن الجنود لا يزالون يصوبون أسلحتهم نحو الزقاق. أستطيع سماع بعض الأطفال يصرخون في أحد المنازل وأرى باباً يفتح وطفلاً يركض في الزقاق. إنه ولد صغير، أصغر من الطفل الآخر، ويمكنك سماع والدته تصرخ عليه لكي يعود الى المنزل، لكنه يقف في الزقاق مرتدياً بيجامته وقد شاهد الجنود يوجهون أسلحتهم نحوه فلا يقوى على الحراك.
يقترب منه أحد الجنود، يلتقطه من عنقه ويوجه مسدسه على معدته. أعتقد أنهم غاضبين حقاً بعد كل تلك الإغاظة من الفتى الآخر ولكن من المستحيل أن يعتقدوا أنه نفس الصبي. ثم يتبول الولد على نفسه ويمكنك رؤية قيعان بيجامته تغمق وتقطر حتى أسفل قدميه. عينيه كبيرتين وهو يقول: "ماما، ماما"، وأشعر بالأسى.
لا أنفك عن التفكير بأنهم سيسمحون له بالذهاب وأن كل هذا مجرد مزحة. ثم تفتح جميع الأبواب في الزقاق في نفس الوقت وتخرجن كل هؤلاء النساء ويصرخن: "إبني، إبني"، حسناً، هذا ما سمعته على أي حال، وبعضهم يقول أيضاً باللغة الإنجليزية: "My son, my son"، لذا أعتقد أن هذا ما قصدنه مما يربك الجنود قليلاً. إنهم يقفون هناك والصبي يتدلى ويقطر ويبكي من أجل إحدى أمهاته، وهم لا يعرفون ماذا يفعلون. أفترض أنهم يفكرون أنه من الأفضل القبض على أي صبي بدلاً من الخروج خاليي الوفاض. إنهم لا ينظرون حتى إلى النساء، وأشعر بأن الطفل المغطى بالبول يزعجهم أكثر من النساء، ولكنني لست متأكداً.
أنظر الى الأعلى للحظة وأرى الصبي ذو البدلة الخضراء على الجانب الآخر من الزقاق على سطح أحد البيوت. هو يراني أيضاً ويبتسم لي ابتسامة عريضة، يغمز ويضع إصبعه على فمه. إنه يشبه بيتر بان وهو يثب من مكان الى آخر. هو يلوح بيده إلى الأسفل ويريني كيف أختبأ خلف الجدار، فأفعل. لا بد أن رأسه ارتطم بشيء ما لأنه يصرخ: "أي، يا شلومو" على الجنود ثم تطلق النيران في الهواء. سأخبرك بأمر، ليس مضحكاً أن تكون على السطح وهناك اطلاق نيران بجانبك، لقد تغوطت على نفسي.
عندما يتوقف إطلاق النيران أزحف على بطني عبر السقف وأجد الكثير من الفضلات: خراطيش، علب مشروبات، أكياس رقائق البطاطس، وفي زاوية ما، لا أريد أن أنظر، ولكن أعتقد أنه خراء حقيقي. أعني غائط الإنسان، وليس الكلب أو أي شيء. لابد أن أحدهم كان هنا لفترة طويلة.
على الجانب الآخر من السقف أرفع رأسي مرة أخرى، ويمكنني أن أرى الصبي القزم يقفز عبر السقوف بين هوائيات التلفاز التي تشبه برج ايفل وأطباق الأقمار الصناعية دون أن يلقي بالاً للعالم من حوله. أسمع صوت الجنود وهم يركضون في الزقاق وأسمع نشيج ولد ما، وأظن أنهم تركوا الطفل الآخر.
السقف عبارة عن طبقة منفصلة من البلدة. أستطيع أن أرى التلال والمكان الذي يعيش فيه إيب وآدا، هو قريب جداً ولكنه يبدو غير واقعي، مثل لوحة بالأرقام مقارنة بكل شيء آخر. تزداد قوة الرياح وتتحرك سحب داكنة ثقيلة وتبدو منخفضة وقريبة من التلال. الغيوم منخفضة جداً وتحتها بقع من الظلال. أبدأ بالتنقل من سقف الى سقف.
أستطيع رؤية سيارة إيب واقفة إلى اليمين والفتى يسير في الاتجاه الآخر وأذهب نحوه. لا شيء آخر يتحرك باستثناء حافلة بيضاء فاخرة تقترب من المكان، مكتوب عليه بخط لولبي "رحلات الكتاب المقدس في الأرض المقدسة". من مكاني أستطيع رؤية الفتى وهو يثب والآن لدي رؤية واضحة للزقاق الواسع الذي يتحرك فيه الجنود. يهرب مني الفتى، ويتأكد من رؤيتهم له. ثم ينزل للأسفل ويتحرك عائداً نحوي منحنياً، وعندما يدنو مني يتراجع بضعة خطوات ثم يركض إلى الزقاق.
أعتقد أنه يحاول التخلص منهم من خلال الوصول إلى الجانب الآخر، ولكنه يستدير حين يصل هناك. لا يمكن أن يكون هناك أي خطوات على الجانب الآخر، لذلك يبقى في الزقاق ويذهب في الاتجاه المعاكس للجنود، ولكن الحافلة تسد طريقه. أستطيع رؤيته والحافلة، في الزقاق أرى باباً يفتح قليلا وامرأة تحاول أن تنادي على الفتى كي يدخل لكن لا يمكنه رؤيتها أو سماعها لأنه لا يتفاعل ويبدو متردداً. لا يحصل الفتى على الفرصة لأن أحد الجنود يلتف ويراه وجميعهم يصرخون. يرتمي الفتى على بطنه ويزحف تحت الحافلة مثل الكلب ثم يطلقون النار عليه.
هناك بعض كبار السن في ملابس واسعة وقبعات البيسبول ينزلون من الحافلة ويبدأون في الصراخ. يانكس (أمريكيون) على ما أعتقد، لأنني أسمع صراخ أحدهم: Dear Gawd! Dear Gawd!""
يكاد الجنود يقتربون من الوصول. إنه ليس زقاقاً طويلاً، مائتي ياردة أو نحو ذلك. ثم يطلقون النار على الصبي كالمجانين، وأفكر، اللعنة هذا الفتى يمتلك أرواح القط حين أراه يدفع قدميه الى الأمام. أحد الجنود يصيب اطاراً، فتميل الحافلة إلى جانب واحد مثل حصان يستريح. ينفجر الغبار والرمل بجانب الجدار. حين يتوقف اطلاق النيران، تحتك الأقدام بالرمال، ولكن الجنود هناك. تتصلب رقبتي ويختلج صدري. هوالآن عالق تماماً.
عندما تتوقف قدماه أقذف ما بداخل معدتي الى الخارج. أتقيأ غداء آدا على السقف وأستمر بالتقيؤ بالرغم من عدم تبقي أي شيء بالداخل، مجرد فقاعات خضراء وبصاق رقيق. أنتفض كما فعلت حين صدمتني سيارة خارج المدرسة ذات مرة. لا أستطيع إيقاف الارتعاش لذلك أتوقف عن محاولة إيقافها لأنها تجعل الأمر أسوأ.
تشتد الريح حين اتجه نحو سيارات الجيب. إنها رياح غاضبة مع حبيبات زجاجية جارحة. هناك سيارتا إسعاف بجانب السيارات التي أتينا فيها. المسعفون مع إيب الذي تعلو جبهته لزقة طبية على شكل فراشة، وحوله تمارا وحاخام وبعض أصدقائه. سيارات الاسعاف فارغة، ولا أرى الرجل العجوز أو الراهبة. ضابط في الجيش يشرح شيئاً لرجل من وكالة رحلات الكتاب المقدس، بينما يحاول الجنود رفع الحافلة لتغيير الإطار وإخراج الطفل. أرى الجسد الذي يجرونه مضرج بالدماء الحمراء على ثيابه الخضراء، وشعره عبارة عن بقعة سوداء.
إيب ينعتني بالأحمق ويقول أنه كان بإمكان العرب أن يقتلوني لأني ذهبت هناك. لا أقول شيئاً. بعد ذلك ينادي رجلاً ويطلب منه أن يرتب موعداً لوكالة رحلات الكتاب المقدس ليزوروهم ويشرحوا لهم المشاكل التي يواجهها المجتمع المحلي. الرجل الآخر يقول: "فكرة عظيمة" ويصفع إيب على ظهره، فيهز الأخير كتفيه كأنه يقول "هذا أمر روتيني".
ينهمر المطر بغزارة عندما نصبح في السيارة، ويلعن إيب الطريق والطقس. لا أتحدث في طريق العودة. أعتقد أنهم يستطيعون شم رائحة المرض علي، وحين نصل إلى منزلهم أستلقي على السرير وأحاول أن أخرج الصبي الذي يغمز من رأسي وطعم القيء من فمي. أستقيم في جلستي وأخرج من جيبي المغلف الذي يحتوي المائتي جنيه الخشنة الملمس. أذهب لرؤية إيب وأنظر إليه مباشرة وأخبره أنني يجب ألا أكون هنا وأنني غششت في قراءة العليا وأخبره أن ديفيد ليفينتشاين هو الذي كان ينبغي أن يفوز.أخبره أنه يجب أن نرتب لعودتي لأن هذا ليس عدلاً. يضحك بطريقة ما وأتسائل اذا كان سينعتني ب "الأحمق" مرة أخرى، ولكنه يقول أنه سيهاتف وكلاء السفر.
"سوف يكلفك الأمر" يقول، فأجيبه "أملك نقود" ويعجبني قول ذلك. يخرج هاتفه النقال ويتحدث بالعبرية، ثم يلتفت إلي ويعطيني السعر بالشيكل. ثم يأخذ آلة حاسبة، مائة وثمانية وتسعون جنيهاً وثلاثة وأربعون بنساً".
"أملك نقود" أقول مرة أخرى، ويقل اعجابي بقولها هذه المرة.
أعلم أن ما سأقوله سيبدو مضحكاً، لكن ما أسمعه حين أتذكرعودتنا الى أعلى التلة ذلك اليوم هو صوت عويل وأغاريد قادمة من البلدة، كأن هناك الكثير من النساء. لا أعرف كيف فعلوا ذلك. كان صوت خفقان ورفرفة مثل الطيور التي تحلق في سماء عاصفة، كان مخيفاً نوعاً ما. مخيف ولكنه مبتهج بالنصر. أعلم أن هذا غير منطقي، عليك أن تسمعه لتفهم ما أعني. بدا لي الصوت كأنه تحذير، ولكن لا أعتقد أن هناك آذان صاغية.