محمد شعبان هو المؤسس والشريك الرئيسي لشركة (MS-Legal Solicitors) في لندن، وأول ليبي مؤهل كمحامي للمحكمة العليا في إنجلترا وويلز.
English
جلبت الانتفاضات التي اندلعت في العالم العربي في عام 2011 الأمل بوجود حقبة جديدة من الحرية والديمقراطية والعدالة في منطقة كانت، ولا تزال في بعض الأماكن، تعاني من الديكتاتوريين القمعيين. لم ينتهك هؤلاء الديكتاتوريون حقوق الإنسان للناس فحسب، بل قاموا أيضًا بسحب الثروات من دولهم من خلال الفساد على نطاق واسع. لم يتركوا للمواطنين سوى خدمات عامة ذات جودة أقل مما يستحقون وأقل مما يمكن للدولة في الواقع أن توفره لولا الكسب غير المشروع لمن هم في السلطة. لم يتوقف اختلاس أصول الدولة، بحسب ما تذكره العديد من المصادر، خلال العقد الماضي في جميع أنحاء المنطقة، على الرغم من زوال هؤلاء الطغاة.
في ليبيا الغنية بالنفط، قام القادة الجدد بمبادرات فوضوية وغير مدروسة إلى حد ما لاستعادة الأصول الهائلة التي أهدرها وغسلها نظام معمر القذافي. ومع ذلك، كان من الواضح منذ البداية أن القادة الليبيين الجدد قد قللوا من حجم المسؤولية المنوطة بهم وكانوا غير مستعدين بشكل جيد، وتعوزهم المشورة والتمويل لمتابعة عمليات البحث الدولية المعقدة للغاية لاستعادة الثروة الليبية المسروقة.
أنشأ المجلس الوطني الانتقالي الذي حكم ليبيا مباشرةً بعد الإطاحة بالقذافي—والذي تلاه حكومات مؤقتة متعاقبة—لجانًا مختلفة وبشكل عشوائي، عن طريق مراسيم، مكلفة بتتبع وإعادة عشرات المليارات من الدولارات من الأصول المختلسة حسب تقديراتهم. ومع ذلك، لم يكن لدى هذه السلطات الجديدة أي تمويل تقريبًا وقليلًا من الأدلة (المقبولة) لدى المحاكم. كما واجهوا معارضة من المخربين الذين تورطوا بشكل مباشر أو غير مباشر في مساعدة رجال القذافي على غسل الأصول الليبية.
لم يكن هناك تمييز يذكر بين الأصول التي تم إخراجها بشكل غير قانوني من البلاد، وتلك التي ظلت تحت ملكية الدولة ولكنها كانت خاضعة لعقوبات دولية، مثل تلك التي تندرج تحت إطار قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1970، والذي تم فرضه ضد نظام القذافي في عام 2011. كانت لجان الأصول المسروقة هذه غير فعالة لأسباب عديدة، وكان ولا يزال وضعها القانوني غير واضح بموجب القوانين الليبية.
التحدي العملي الآخر في ليبيا ما بعد القذافي هو أن المطلعين على فساد القذافي وجرائمه إما قفزوا من السفينة وانضموا إلى السلطات الجديدة، أو فروا من البلاد، أو قُتلوا أو سُجنوا. بصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة، اختار هؤلاء الذين استجوبتهم هذه اللجان عدم تقديم أدلة مقبولة ووثائق حول تبديد وغسيل أموال الدولة. وتوصل آخرون إلى تسويات مشكوك فيها مع الأعضاء الأقل حذرًا في الحكومة الليبية الجديدة. أخيرًا، أدى الصراع السياسي المستمر بين الأشقاء خلال السنوات العشر الماضية، بطبيعة الحال، إلى تقليص أي تقدم في استعادة الأصول الليبية المسلوبة في عهد القذافي.
توجد بعض هذه الأصول في المملكة المتحدة، والتي كانت ولا تزال مركزًا ومستفيدًا من تدفقات الأموال الفاسدة من خلال المراكز المالية والعقارات البريطانية، على الرغم من خطاب الحكومة البريطانية المغاير لذلك. لا يزال القانون الإنجليزي لا يهتم على وجه التحديد بإعادة الأصول غير المشروعة المصادرة، على الرغم من أن المملكة المتحدة عضو في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهي المعاهدة الدولية الوحيدة الملزمة قانونًا لمكافحة الفساد. ومع ذلك، فهذه ليست مشكلة بريطانية فريدة. فبحسب تقرير صدر مؤخرًا عن مبادرة استرداد الأصول المسروقة التابعة للبنك الدولي، تمت إعادة 3.3 بالمئة فقط من الأصول المصادرة إلى الدول المتضررة.
بدلًا من ذلك، لدى المملكة المتحدة العديد من القوانين والإجراءات التي تستند أساسًا إلى قانون عائدات الجريمة لعام 2002، والذي تم تعديله لاحقًا بموجب قانون الأموال الجنائية لعام 2017 الذي قدم "أوامر الثروة غير الواضحة"، والتي يمكن لمحكمة بريطانية بموجبها إجبار الأفراد على الكشف عن مصدر ثروتهم غير الواضحة.
تهدف خطة عمل استرداد الأصول التي قدمتها الحكومة البريطانية مؤخرًا إلى إظهار جدية نية المملكة المتحدة في إعادة الأصول المسروقة وتضييق الخناق على أموال الكسب الغير مشروع. ومع ذلك، تشير الدلائل المبكرة إلى أن السياسة تحقق عناوين سياسية مثيرة في وسائل الإعلام أكثر من كونها تساعد فعليًا البلدان التي وقعت ضحية للفساد.
وفقًا لتقرير عام 2019 الصادر عن منظمة (Global Witness) غير الحكومية، تم تسجيل حوالي 87,000 عقار بقيمة حوالي 100 مليار جنيه إسترليني في المملكة المتحدة بأسماء شركات وهمية لا يُعرف مالكوها الحقيقيون. حتى وإن كانت هذه نسبة صغيرة من هؤلاء الملاك من الفاسدين وغاسلي الأموال وأباطرة المخدرات وغيرهم من المجرمين، فسيكون ذلك بمثابة تمويل لجزء كبير من سوق العقارات البريطاني من مصادر غير معروفة ومشكوك فيها.
على الرغم من عضوية المملكة المتحدة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والقوانين الحديثة المصممة لمكافحة التدفقات غير المشروعة للأموال إلى البلاد، إلا أن قوانينها ما زالت تميل لصالح الفاسدين والمجرمين الذين يختبئون وراء الحماية التي توفرها لهم القوانين والسياسات البريطانية الأخرى بشأن حماية البيانات والخصوصية وأعباء الإثبات ومعاييره. يمكنهم استخدام هذه القوانين الأخرى لتعطيل وحتى منع تطبيق استرداد الأصول الحقيقية.
ماذا يعني هذا لاستعادة ثروة ليبيا التي تم سرقتها في ظل ديكتاتورية القذافي؟ المفارقة، وإن كانت محبطة، هي أنه من الأسهل على الفاسد تمرير الأموال المشبوهة عبر مدينة لندن أكثر من قيام دولة ليبيا بتجميد تلك الأصول وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين الذين هم الشعب الليبي.
بصفتي أول مواطن ليبي يحمل جنسية بريطانية مزدوجة ويتم قبوله في المحكمة العليا في إنجلترا وويلز، فقد تم تفويضي لمتابعة عدد من دعاوى استرداد الأصول أمام المحاكم الإنجليزية. جاء تفويضي مباشرة من إدارة قضايا الدولة، وهي جهة ليبية تم إنشاؤها بموجب القانون رقم 87 في عام 1971 وترفع تقاريرها مباشرة إلى المجلس الأعلى للقضاء في ليبيا. تتمتع الإدارة بالحق الحصري في تمثيل دولة ليبيا في جميع المنازعات المدنية والتحكيمية المحلية والدولية.
على الرغم من أن إدارة قضايا الدولة تضم بعض من أكثر المحامين الليبيين نزاهة الذين عملت معهم، إلا أنها تعاني من نقص التمويل الحكومي والدعم من الجهات الحكومية الرئيسية الأخرى التي تكون، أو ينبغي أن تكون، أكثر نشاطًا في النضال من أجل استرداد أصول ليبيا.
كانت أول قضية لاسترداد الأصول في العالم بعد الربيع العربي تصل إلى محكمة هي قضية "دولة ليبيا ضد شركة كابيتانا سيز المحدودة". في 9 مارس/آذار 2012، حكم القاضي (اللورد الآن) أندرو بوببلويل لصالح ليبيا، حيث وجد أن ابن القذافي، الساعدي، اشترى قصرًا بقيمة 10 ملايين جنيه إسترليني في لندن من خلال اختلاس أموال الدولة الليبية، وسجّل العقار باسم شركة خارجية، من أجل إخفاء مصلحته في عملية الشراء. كان حكم المحكمة البريطانية إيذانًا بنهاية حقبة الإفلات من العقاب للديكتاتوريين وعائلاتهم الذين ينهبون موارد الدولة من أجل مصلحتهم الشخصية.
في قضية أخرى لا تزال جارية في المملكة المتحدة—"الجهاز التنفيذي للطيران الخاص ضد (Prime Education Ltd & Others)" —حصلنا على حكم في فبراير/شباط من هذا العام يبلغ 15 مليون جنيه إسترليني ضد المدعى عليه الأول لخرقه "اتفاقية" قام فيها مسؤول ليبي بدفع مبلغ من أموال الدولة لشركة بريطانية مقابل تدريب الطيارين الليبيين. وعندما لم يتمكن الطيارون من حضور دوراتهم التدريبية بسبب قيود التأشيرات، أبرم هذا المسؤول عن عمد أو بحماقة "عقدًا" لاحقًا "منح" فيه 15 مليون جنيه إسترليني إلى المتهمين، الذين شرعوا بعد ذلك ودون صلاحية في "استثمار" الأموال في مشاريع مضاربة عقارية في إسطنبول—حيث خسروا، حتى الآن، أكثر من نصف قيمة الاستثمار.
خرقت تصرفات المسؤول الليبي العديد من القوانين الليبية بشأن الجرائم الاقتصادية ومالية الدولة. وانتهك النظراء البريطانيون قانون العقود الإنجليزي بشأن "عدم المراعاة"، فضلًا عن أمور أخرى أكثر خطورة، مثل عدم الأمانة وخرق الواجبات الائتمانية والإثراء غير المشروع. سيتم البت في هذه القضايا الأخيرة في محاكمة في وقت لاحق من هذا العام.
هناك قضيتان أخريان تتعلقان بنهب القطع الأثرية الثمينة، وهو أمر يثير قلقًا متزايدًا في الشرق الأوسط. هذه الكنوز التاريخية لا تقدر بثمن من حيث القيمة المالية، حيث أن سرقتها تحرم الناس من تراثهم الثقافي وهويتهم. في عام 1990، تم نهب رأس تمثال روماني للأميرة فلافيا من موقع صبراتة المحمي من قبل اليونسكو، غرب طرابلس. ظهر رأس التمثال بأعجوبة في مزاد كريستي في لندن بعد سنوات، في أبريل/نيسان 2011، خلال ذروة العنف الذي اجتاح ليبيا قبل الإطاحة بالقذافي.
تم بيع التمثال، الذي تم تسويقه بشكل خاطئ على أن مصدره مصر ويُزعم أنه مملوك لعائلة سويسرية ثرية منذ عام 1975، إلى جامع فنون إيطالي غير مرتاب من الأمر. ولكن لولا تدخل علماء الآثار الليبيين والإيطاليين الهام، كان من الممكن أن يقضي ذلك على أمل عودة تمثال الأميرة فلافيا إلى الوطن. فمن خلال تقارير الخبراء التي قاموا بكتابتها، قدمنا الدليل على مصدر القطع الأثرية إلى دار كريستي. وعندما اكتشف القائمون على المزاد فداحة خطأهم، اختاروا ألا يتحدّونا، وقاموا وبدلًا من ذلك، بتعقّب المشتري الإيطالي وعوضوه. ثم عاد تمثال فلافيا إلى طرابلس على متن طائرة رئيس الوزراء الإيطالي في ديسمبر/كانون الأول 2011.
في نفس العام، تم إخراج تمثال رخامي بالحجم الطبيعي عمره 2000 عام للإلهة اليونانية القديمة بيرسيفوني بشكل غير قانوني من موقع قورينا المحمي من قبل اليونسكو، بالقرب من مدينة شحات الحالية في شرق ليبيا. قام اللصوص في وقت لاحق بنقل التمثال المحفوظ جيدًا عبر تركيا إلى المملكة المتحدة، حيث صادرته الجمارك البريطانية في مطار هيثرو بلندن عام 2013.
في البداية، كان لدائرة الإيرادات والجمارك البريطانية اعتقاد خاطئ بأن التمثال أتى من العراق. لكن بعد عمليات التفتيش التي أجراها خبراء من المتحف البريطاني، تم التأكد أن التمثال أتى من قورينا. خلصت محاكمة المصادرة في 1 سبتمبر/أيلول 2015 إلى أن ناقل التمثال، أردني الجنسية، ورعاته، وهي شركة في الإمارات العربية المتحدة تدعى حسن فاضلي للتجارة ش.م.، ادعوا زورًا وقدموا وثائق مزورة تشير إلى أن أصل التمثال من تركيا.
كما زعموا أن قيمة التمثال كانت 10 بالمئة فقط من سعره الحقيقي في المزاد، وذلك لتخفيض فاتورة الجمارك. أمرت محكمة في لندن بمصادرة التمثال من قبل سلطات الجمارك البريطانية بموجب قانون إدارة الجمارك والضرائب لعام 1979. وبعد مفاوضات، وافقوا على تسليم التمثال إلى الحكومة الليبية.
في الآونة الأخيرة، ركزنا مواردنا على الدفاع عن ليبيا في منازعات تحكيم المستثمرين الدوليين، حيث تبلغ قيمة هذه الدعاوى مئات الملايين من الدولارات. ونظرًا لأن التحكيم هو إجراء خاص لتسوية المنازعات، على عكس التقاضي العام في المحكمة، فإنه يخضع لقواعد السرية. يكفي القول أنه في إطار عملية الدفاع عن هذه القضايا، تم الكشف عن نمط من مستويات فساد مروعة في العقود المبرمة التي شارك فيها مسؤولون ليبيون ومن يُسمَّون نظرائهم "المستثمرين".
أدى عدم نجاح استرداد الأصول في أعقاب الانتفاضات العربية إلى دفع بعض المتحدثين، وخاصة أولئك الذين يتوقون إلى "الاستقرار" المفترض تحت ظل هؤلاء الطغاة، إلى الادعاء بأنه كان هناك القليل جدًا من اختلاس أصول الدولة من قبل الأنظمة التي سقطت. هذا الأمر غير صحيح.
هناك العديد من الأسباب للفشل في استرداد الأصول المختلسة حتى الآن، بدءًا من فراغ السلطة وعدم الاستقرار الذي ظهر مع رحيل أنظمة حكم الفرد مثل نظام القذافي. لقد دمر معمر القذافي بشكل منهجي أي مؤسسات للدولة يمكن أن تحاسب نظامه. وبعد وفاته، بالكاد وُجدت كيانات ليبية يمكن أن تسعى لتحقيق العدالة والمساءلة، أو كانت متدهورة لدرجة أنها أصبحت غير قادرة على العمل.
من المفهوم أن الحكومات المؤقتة الجديدة أعطت الأولوية للتهديدات الوجودية لليبيا، حيث كانت البلاد غارقة في حرب أهلية وأصبحت مركزًا للجماعات الإرهابية مثل الدولة الإسلامية. افتقرت هذه الحكومات إلى الخبرة والتمويل لمتابعة قضايا استرداد الأصول في الخارج، ولم تستفد حتى الآن استفادة كاملة من برامج التدريب الدولية لمعالجة الفساد، مثل تلك التي يقدمها البنك الدولي، وكذلك المنظمات غير الحكومية مثل منظمة الشفافية الدولية. والأسوأ من ذلك، أن حكومات ما بعد القذافي قد اختُرقت من قبل بعض الشخصيات الفاسدة نفسها التي ساعدت نظام القذافي في إساءة استخدام ثروات الأمة وغسلها في البداية.
في المملكة المتحدة، حيث تم إخفاء الكثير من ثروات ليبيا، لم تقدم الحكومة المساعدة اللازمة، إذ وضعت عوائق كبيرة بشكل غير واقعي أمام يصعب على الديمقراطيات الوليدة مثل ليبيا التغلب عليها من أجل جذب المساعدة المالية اللازمة لمتابعة قضايا استرداد الأصول المُكْلِفة في المحاكم البريطانية. وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية تتشدق بالخطابات المتعلقة بمكافحة التدفقات غير المشروعة للأموال، إلا أن لندن تظل نقطة جذب للحكام الفاسدين.
بعد مرور عقد من الزمان على نهاية ديكتاتورية القذافي، فإن الأموال التي تخص الشعب الليبي والتي يجب استخدامها لتحسين الخدمات العامة—في التعليم والرعاية الصحية وإمدادات الطاقة—لا تزال تُستخدم بدلًا من ذلك لتزييت عجلات المراكز المالية والمضاربين العقاريين حول العالم.
وما لم تكن الحكومة الليبية الجديدة مستعدة للاستثمار في استرداد الأصول—من خلال تدريب موظفيها وتمويل التحقيقات وبدء الإجراءات القانونية، المدنية والجنائية على حد سواء—فإن الشعب الليبي سيستمر في المعاناة من آثار سرقة كنوزه. بالنسبة للعديد من الليبيين، فإن تحرير أنفسهم من طاغية لا يرحم لم يؤد بعد إلى تشكيل حكومة تلبي احتياجاتهم، ناهيك عن السعي إلى المساءلة عن جرائمه.