عماد الدين بادي مستشار وباحث ليبي. وهو زميل رفيع غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي ومحلل رفيع في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية.
في الأماكن التي تتردد فيها أصداء الصرخات العاجزة وسط أنقاض مدينة درنة في شرق ليبيا، يعيش مواطنوها كابوسًا ناجمًا عن ضراوة الحكام المتعاقبين والقسوة الجامحة للنخب العسكرية. كان هناك سدّان، من بقايا حقبة ماضية في ظل حكم معمر القذافي، قائمان لعقود من الزمن كحراس مُهملَين، يحرسان مدينة ساحلية تُركت عمدًا عرضة للتغيرات الناجمة عن المناخ. ومع انهيار السدّين في نهاية المطاف تحت وطأة الأمطار الغزيرة التي هطلت على البحر الأبيض المتوسط في وقت سابق من هذا الشهر، أدت الفيضانات المفاجئة إلى انقسام درنة إلى قسمين، ما أدى إلى مقتل الآلاف من سكانها على الفور وجرف الكثيرين إلى البحر.
لن يكون غضب الطبيعة هو الذي سيطارد سكان درنة فحسب، بل عاصفة الإهمال والتلاعب والقمع التي سبقت هذه المأساة وتلاها.
وتعكس معاناة درنة في نواحٍ عديدة المصير المأساوي لليبيا. تعتبر المدينة مهدًا لمعارضة القذافي خلال حكمه، واشتهرت بفنانيها وشعرائها ومشهدها الثقافي. لقد تم تهميشها عمدًا من قبل الدكتاتور لهذه الأسباب بالذات. وفي مرحلة ما بعد القذافي، لم تتعامل السلطات الانتقالية في البلاد مع الوضع على نحو أفضل، حيث استبدلت وعودها ببدايات جديدة من الفوضى والنهب. وتدهور الوضع الأمني في درنة، حيث أصبحت مرتعًا للفصائل الإسلامية المتنافسة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية. وبحلول عام 2017، قام خليفة حفتر، وهو جنرال عسكري مدعوم دوليًا كان قد خدم في نظام القذافي، بفرض حصار على درنة تحت ستار مكافحة الإرهاب—على الرغم من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالفعل على يد التحالف المحلي الذي يقوده الإسلاميون في درنة. وفي انتصار باهظ الثمن في عام 2019، احتلت ميليشيا حفتر—التي تسمي نفسها القوات المسلحة العربية الليبية—المدينة على حساب قتل وتهجير وسجن ربع سكانها.
لن يكون غضب الطبيعة هو الذي سيطارد سكان درنة فحسب، بل عاصفة الإهمال والتلاعب والقمع التي سبقت هذه المأساة وتلاها.
- عماد الدين بادي
ولم تنته محنة درنة عند هذا الحد، حيث ألقت المناورات السياسية بين الحكومات الليبية المتعاقبة والمتنافسة، ونخبها بظلالها الطويلة على المدينة. إنّ تدافع الوسطاء الدوليين والسياسيين الليبيين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية للتوسط في صفقات مع حفتر حكم على درنة بالنبذ، وعانى سكانها بصمت.
وفي الوقت نفسه، انهارت البنية التحتية في درنة، وأضعفها الإهمال. واستمرت النخب السياسية في السرقة، واختارت الجشع على الحكم. ومع تجمع سحب العاصفة دانيال على الشواطئ الليبية، كان لدى السلطات تحذيرات كافية لكنها لم تُظهر سوى اللامبالاة.
وقبل وقوع الكارثة، برز إهمال السلطات في شرق ليبيا. فبدلًا من الاستجابة لعلامات التحذير وإخلاء المدينة، أصدروا أوامر متناقضة. تم إخلاء بعض الأحياء الساحلية في درنة، لكن حظر التجول أدى إلى محاصرة سكان درنة في المناطق الأكثر عرضة للخطر. مزقت الفيضانات التي تلت ذلك قلب المدينة، ولم تترك في أعقابها سوى الدمار والموت واليأس. وأُزهقت أرواح ودُمرت منازل وشُرد وجُرح الآلاف. وقد تُرك السكان ليواجهوا عواقب المأساة التي كان من الممكن تفاديها. وبطبيعة الحال، شعروا بالتخلي عنهم من قبل أولئك الذين كان ينبغي عليهم حمايتهم.
ومع ذلك، وسط الركام والحزن، ظهر بصيص من الأمل. فقد تألقت قدرة شعب درنة على الصمود عندما ساعد سكان الأحياء في تنظيم جهود الإنقاذ والإغاثة جنبًا إلى جنب مع المجتمع المدني والكشافة والمتطوعين من القوات المسلحة العربية الليبية. وفي جميع أنحاء البلاد المقسمة، اندلعت موجة غير مسبوقة من الدعم الشعبي، حيث احتشد الليبيون من جميع مناحي الحياة لدعم درنة. وباع البعض ممتلكاتهم الثمينة لتقديم المساعدة. لقد كانت شهادة على الروح الدائمة للشعب الذي تخلى عنه قادته.
لكن هذا الأمل سرعان ما أفسح المجال لخيبة الأمل عندما سعت عائلة حفتر إلى اختطاف جهود الإغاثة من خلال القوات المسلحة العربية الليبية، وكل ذلك مع التنصل من المسؤولية عن المأساة وإلقاء اللوم على سكان درنة. وأصبحت الوحدات العسكرية متحكمة بجهود التعافي، ما أدى إلى خلق اختناقات وعرقلة لتدفق المساعدات.
صدام حفتر، الرجل الذي ليس له مؤهلات عسكرية سوى أنه ابن خليفة حفتر، والذي لم يتدرب كجندي ولا عامل إغاثة، عيّن نفسه رئيسًا فعليًا للجنة الأزمات المسؤولة عن جهود الإغاثة في درنة. وبينما ساعد الجنود الأفراد على الأرض بالفعل، انغمست القيادة العسكرية في سرقاتها المعتادة. وأقاموا نقاط تفتيش أعاقت جهود الإغاثة وتعاملوا مع المساعدات على أنها غنائم حرب.
خرج سكان درنة، الذين تعرضوا للضرب ولكن دون أن يُثنيهم ذلك، إلى الشوارع في احتجاج حاشد بعد تسعة أيام فقط من المأساة. وارتفعت أصواتهم فوق الأنقاض، وتردد صداها في شوارع المدينة المدمرة. وكانت مطالبهم بسيطة: المساءلة والعدالة. وطالبوا بإجراء تحقيق دولي لكشف الحقيقة. كما أرادوا تسريع عملية إعادة إعمار المدينة تحت إشراف دولي، وبمشاركة شركات ذات سمعة طيبة من الخارج.
إنّ مأساة درنة هي في نهاية المطاف قصة القادة الذين أداروا ظهورهم لشعبهم والنخب العسكرية التي استغلت معاناتهم لتحقيق مكاسب خاصة بهم.
- عماد الدين بادي
وفي تحول للأحداث مثير للقلق، ردت السلطات العسكرية باعتقال قادة الاحتجاج، وفرض تعتيم إعلامي على مدينة تفوح منها رائحة الموت. وانقطعت الاتصالات لمدة يومين تقريبًا، ما أدى إلى غرق المدينة في حالة من الصمت. تم منح إمكانية الوصول للإنترنت لعدد قليل فقط من الوسائل الإعلامية المؤيدة للجيش والأفراد الحزبيين. وزعمت لجنة الأزمات العسكرية أن انقطاع التيار الكهربائي كان بسبب تلف الكابلات. وتلقى الصحفيون الدوليون القلائل المتبقين في درنة أوامر متناقضة ومُنعوا من تغطية جهود الإغاثة.
ومن الواضح أن المتحدث باسم لجنة الأزمات ذكر أن أحد أهداف اللجنة هو "إدارة تدفق المعلومات من درنة"، وهو تعبير ملطّف عن الرقابة في العصر الحديث. وبالنسبة للمشاهدين من الداخل، كانت الحقيقة واضحة: لقد تم إسكات سكان درنة ومعاقبتهم لجرأتهم على المطالبة بالمحاسبة.
إنّ مأساة درنة هي في نهاية المطاف قصة القادة الذين أداروا ظهورهم لشعبهم والنخب العسكرية التي استغلت معاناتهم لتحقيق مكاسب خاصة بهم. واليوم، تجد المدينة نفسها، مثل معظم أنحاء ليبيا، تحت رحمة مشهد سياسي مختل يعج بأتباع مدارس القذافي الشائنة للقمع والفساد. وليس من المستغرب أن يقوموا بشكل جماعي بإدامة إرثه من الإهمال والجشع على حساب ليبيا. لكن الجِراح التي أصابت سكان درنة لن تتلاشى مع مرور الوقت. فهي الآن محفورة في روح المدينة. وعلى الرغم من أن أصواتهم مكتومة الآن، إلا أن سكان درنة لن يتوقفوا أبدًا عن السعي لتحقيق العدالة.
وفي ساعة الظلام هذه، لا ينبغي تجاهل نداءاتهم. إنّ قصة درنة ليست مجرد قصة يتم سردها أو تذكرها، بل يجب أيضًا البناء عليها. ويجب كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الكارثة.