ياسين الحاج صالح كاتب سوري ومعارض سياسي، وزميل غير مقيم لدى منظمة الديمقراطية للعالم العربي الآن (DAWN)
لم تمر تجارب الاعتقال والتعذيب والسجن السياسي في سورية دون تمثيل. العقد الذي سبق الثورة السورية شهد ظهور مكتبة صغيرة من نصوص وكتب ألفها من خاضوا التجربة شخصياً.
كان أمثال مصطفى خليفة وحسيبة عبد الرحمن ومي الحافظ وآرام كربيت ولؤي حسين وراتب شعبو وفرج بيرقدار وهبة الدباغ ومالك داغستاني وبراء السراج ومعبد الحسون ومحمد برو في سجون النظام في ثماينات القرن العشرين وتسعيناته، وهم رووا تجاربهم الشخصية و/أو جوانب من التجربة العامة التي كانوا جزءاً منها.
"أدب السجون" هذا إنجاز مهم بالمقاييس السورية بالنظر إلى ندرة ما ألف سوريون عن سورية في سنوات الحكم الأسدي، العهد الذي صار السجن فيه مؤسسة سياسية أساسية، والاعتقال السياسي تجربة وطنية عامة. التمثيل المعرفي لسورية كان ينافس على العدم التمثيل السياسي للسوريين في تلك العقود الكابوسية. ومن هذا الباب كانت الكتابة عن السجن تمثيلاً للنفس من حيث أنها تروي قصة الحرمان من الكلام ومن التنظيم، أي من السياسة والتمثيل.
لكن لعله لذلك بالذات اكتفينا بإعطاء صوت لتجاربنا، وقلما عملنا على إدراجها في نطاقات أوسع أو في أطر مقارنة، لم نكن نملك شيئاً من عُدّتها على كل حال. كنا نقاوم الصمت القسري، ونستنفد قوانا في ذلك، لا نتعدى إلى شيء آخر.
صحيح أننا كنا نفكر في تجارب الاعتقال والتعذيب السورية كأوجه للنضال من أجل الحرية، تنتمي إلى عالم من تجارب مماثلة، كان أقربها إلينا تجارب عربية في العراق ومصر والمغرب وغيرها، أو تجارب مناضلين ديمقراطيين في بلدان أوربا الشرقية التي كان سقوط أنظمتها قريب العهد وقتها، إلا أننا قلما تجاوزنا إشارات عارضة حتى إلى هذه التجارب الأقرب مكاناً أو زماناً.
هناك منطق وراء ذلك: الجريح ينكفئ على جرحه، سواء كان الجرح في الجسم أو النفس، وتتجه كل طاقته إلى الاعتناء بنفسه. يحدث أن يقع الواحد منا في حب جرحه لأنه يتوافق مع العناية بالنفس ومع توقع العناية من جهة الغير. نرجسية الجريح هذه هي تجربتنا بدرجات متفاوتة، وهي حالت دون أن نفكر بغيرنا ونحن نفكر بما وقع لنا.
تجارب السوريين الجديدة خلال عقد ليست أشد هولاً بما لا يقاس فقط، وإنما هي كذلك مقترنة بتجربة شتاتية واسعة، تشمل ما يقترب من 30% من السوريين. تجربة الشتات هذه أحد أوجه الصفة العالمية للقضية السورية، التي يتمثل وجهها الآخر في أن غير قليل من العالم في سورية، سواءاً في صورة دول أو منظمات ما دون الدولة، أو في صورة أُمميات دينية، سنية وشيعية، وبدرجة أقل منظمات يمينية مسيحية من أوربا.
وفيما يتجاوز ذلك، تقوم الصفة العالمية للقضية السورية على كون البلد كان معْرَضاً لأقاصي التجربة الإنسانية خلال عقد من السنيين، تجارب كالتعذيب والقتل، وتدمير المناطق المدنية، والتغييب القسري، واللجوء الواسع، تدفع إلى إعادة تعريف الإنسان والإنسانية.
ومن الواضح أن التمركز حول تجاربنا السورية لم يعد كُفأً لتمثيلها في الوقت الذي انكسرت فيه المركزية السورية لخبرات السوريين انكساراً حاداً، وتناثرنا في العالم. الاستجابة لشرطنا العالمي تقتضي اليوم فتح تجاربنا وقصصنا على تجارب وقصص شهدت أقاصي مماثلة، ووجودنا في الشتات، وخاصة في الغرب، يسهل ذلك.
لا نستطيع ونحن "عالميون" بهذا القدر أن نستمر في تناول شأننا السوري كأن سورية كوكب مستقل أو جزيرة معزولة، ولم يعد مناسباً للسوريين وهم يعملون على تمثيل تجاربهم أن يغيب عنها الهولوكوست، أو الإبادة الكمبودية أو الرواندية، أو التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة، أو مصائر مسلمي اليغور في الصين والروهينغا في ميانمار. كل ما هو مأساوي في العالم يعنينا ولنا فيه نصيب.
من شأن الهولوكوست، مثلاً، أن يكون مرجعاً لتفكيرنا في الشأن السوري وفي الوقت نفسه مصدر تعقيد بالمعنى الجيد للكلمة.
فنحن من جهة حيال عملية إبادة كبرى، فريدة من أوجه عديدة، نخسر وحدنا معنوياً وأخلاقياً بإهمالها أو عدم إعطاءها ما تستحق من اهتمام. ومن جهة أخرى استخدم الهولوكست غالباً لإعطاء الشرعية لدولة تقوم جوهرياً على التمييز والإبادة السياسية للفلسطينيين، إسرائيل.
وهو ما يقتضي من شركاء الفلسطينيين في الإبادة السياسية، كالسوريين، أن يعترضوا على إنكار الهولوكوست وعلى سوء استخدامه في آن. فضلاً عن قصص الناجين، وعن سيرة معسكرات الاعتقال، هناك أدب واسع فكّر في الإبادة اليهودية، وهو سند ممكن لنا للتفكير في الإبادة السورية.
وتعلمنا كمبوديا الخمير الحمر أشياء مهمة عن جنون الهوية الإثنية أو القومية، الجريحة بفعل تجارب استعمارية وتوترات مع الجوار الفيتنامي والصيني، ثم امتزاج الهوية المتوترة بيوتوبيا ريفية مجنونة بدورها.
يبدو أن الجماعات تجن مثل الأفراد، والإثنيات تجن مثل الأديان، وما قد يسمى علم الجنون الجمعي المقارن جدير بأن ينظر فيه ويدرس من موقعنا نحن، المجتمع والبلد الذي خبر أحدث حلقات الجنون.
ويمكن أن نجد إلهاماً كذلك في قصة الإبادة الرواندية التي تحمل أوجه تقارب وتباين مع الإبادة السورية، من أبرزها دور الأنثروبولوجيا الاستعمارية في تصليب اختلافات اجتماعية أو ثقافية، وتحويلها إلى فوارق جوهرية وقديمة وأصلية (الأطروحة الحامية)، وهو ما يذكر بتصليب الفوراق الدينية والمذهبية في سورية وتحول جماعات أهلية محدودة الاختلافات إلى شعوب أو ما يقاربها. وفي الحالين يظهر دور السياسة والامتيازات السياسية والاجتماعية في صنع هويات متخارجة.
ومثالا الروهينغا والإيغور يضيئان واقع أن الإرهاب والحرب ضد الإرهاب، وهي سردية الأقوياء المهيمنة عالمياً منذ عقدين على الأقل، تخدم في حجب إبادة الضعفاء مثلما هو جار في سورية طوال عشر سنوات.
ليست هذه أمثلة حصرية، ولكن ما يتصل بالجينوسايد من نظريات ومفاهيم تبدو ناجعة لتناول الأوضاع السورية. من المهم أن نستطيع أن نحدث أنفسنا، نحن السوريين، عما جرى لغيرنا كي نستطيع كسر ضيق الأفق المحلي المميز لنا بفعل عزلة بلدنا طوال عقود، وأن نصارح أنفسنا بأنه ليس صحيحاً بحال أن ما جرى لنا استثنائي وهائل ولا يقارن بغيره. هو هائل، لكنه للأسف غير اسثنائي بحال، وحدث أن وقع مثله وأسوأ لشعوب غيرنا.
من المهم بالقدر نفسه أن نقول للعالم شيئاً عما يميز ما جرى لنا من تدمير، وهو الأكثر توثيقاً في عالم اليوم، وأن نوضح بماذا تختلف سورية عن غيرها.
وهو ما يوجب عملاً متعدد الجوانب على تاريخنا واجتماعنا وسياستنا، بخاصة على التكوين الإبادي للحكم الأسدي، وهو تكوين لا يزال غير مدروس نسقياً، ويغلب أن يجري إغراق هذا النظام في مقولات عامة غير صالحة مثل الاستبداد أو الدكتاتورية أو التسلطية، أو حتى الشمولية.
ثم إن من شأن عملنا على أن نبلغ أنفسنا عما جرى لغيرنا في العالم ونبلغ العالم عما جرى لنا أن يضعنا في موقع أنسب لنكون جزءاً من نقاش حول المستقبل، حول عالم يسير اليوم بأعين مفتوحة نحو أزمة كبرى.
قد ننظر إلى الوراء بعد سنوات ليست كثيرة، ونرى أن سورية جمعت بين الكثير من حضور العالم فيها ومن حسن سير الإبادة مع ذلك، أو أن شكل حضور العالم سهل من جعل قتل مئات ألوف السوريين أمراً غائباً وغير مرئي، رغم التوثيق غير المسبوق للصراع في سورية. وهذا بفعل ما تقدمت الإشارة إليه من أن شكل حضور العالم كـ"محارب للإرهاب" في سورية غطى على الإبادة وسهل وقوعها.
يعني الشرط الشتاتي بالتعريف أننا سوريون و"عالميون" في آن، وهو ما يؤهلنا رغم المصاعب لأن نحدث سورية عن العالم ونحدث العالم عن سورية. ليس هناك دول عالمية ولا ثقافات عالمية، هذا تناقض في الألفاظ. هناك دول في العالم وثقافات في العالم.
لكن الشتات هو الشرط الأكثر عالمية لكونه بمثابة عبور للدول والثقافات، ولأنه وثيق الصلة من حيث المنشأ ببنية العالم القائمة على التمييز وأوجه متكاثرة من اللامساواة، وتحطم بلدان عديدة منها بلدنا. ولذلك فإن من تتشكل هويتهم حول شرط الشتات يشغلون مبدئياً الموقع الأنسب للكلام على العالم.
يلزمنا دون شك توسيع معرفتنا بالعالم الذي نعيش فيه وتطوير أدواتنا ومناهجنا. هذا يأخذ وقتاً ويقتضي جهداً، لكننا اليوم في وضع مماثل لوضع من كانوا سجناء لوقت طويل بيننا: نعمل على صنع أفضل ما يمكن من وضع سيء. وليس هناك ما هو أفضل في تصوري من إحاطة تتحسن بعالم قذفنا فيه دون سابق استعداد.
تتواتر الشكوى اليوم ومنذ سنوات بين سوريين وشركاء لهم من أن الشأن السوري أقل حضوراً في الأخبار، والافتراض الضمني وراء ذلك أن من شأن حضور سورية في الأخبار أن يجعل السوريين وقضيتهم مرئية أكثر.
ربما. لكن سواء حضرت سورية في الأخبار أو غابت، فقد أزف الوقت على أن نفكر ونعمل استراتيجياً، أن تحضر قضيتنا في الثقافة: في الفكر والفن والأدب، وفي الإنسانيات والفلسفة. هذا حضور أبطأ وأقل درامية، لكنه أعمق وأبقى أثراً. وإن كان من وجه آخر يُقاوَم بقوة في بلدان تعرض تصلباً ثقافياً متزايداً، كبلدان الغرب.
الانتقال إلى الثقافة يقتضي العمل على وضع قضيتنا في إطار أوسع، والتدرب على تطوير مقاربات مقارنة. وقبل كل شيء التمرس بالشرط الشتاتي كانفتاح متوتر بين صفتينا السورية والعالمية