جوليان سايارير كاتب وصحفي. كتابه الأخير بعنوان "خمسون ميلاً عرضاً: ركوب الدراجات عبر إسرائيل وفلسطين" (أركاديا، 2020).
English
سلطت الحرب الروسية في أوكرانيا الضوء على تركيا باعتبارها الدولة الوحيدة التي لديها علاقة نفوذ حقيقي في كل من كييف وموسكو. هذا التقارب هو الذي يساعد في تفسير سبب كون إسطنبول موقعاً لأحدث محاولة لمحادثات السلام هذا الأسبوع. ولكن في الوقت الذي تعمل فيه تركيا كوسيط، فهي أيضاً شريك دفاعي رئيسي لأوكرانيا، خاصة مع توريد طائراتها المسيرة المشهورة الآن والتي كانت ناجحة بالفعل ضد القوات الروسية في أماكن أخرى.
وعلى الرغم من أن علاقة تركيا مع أوكرانيا قد نمت أهميتها في حد ذاتها، إلا أن دعم الحكومة التركية لمقاومة الغزو الروسي ليس بصدمة. إن المفاجأة الواضحة للعديد من المراقبين في الغرب من الدور التركي في أوكرانيا هي أكثر وضوحاً لارتباك كامن في الرأي العام. وقد نالت الطائرات المسيرة التركية التي تساعد أوكرانيا على دعم القانون الدولي على الثناء، في حين أن الطائرات المسيرة التركية التي تستخدم لتأكيد حدود أذربيجان المعترف بها دولياً في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه أكسبت تركيا حظراً على تصدير مكونات الطائرات المسيرة التي يتم شراؤها من كندا. إن عدم مواجهة مبيعات الأسلحة الكندية إلى السعودية مثل هذا الانقطاع، على الرغم من الفظائع في اليمن، يكشف عن دورة لا هوادة فيها من المبادئ والنفاق التي تميز المشاركة الإقليمية الغربية.
ويتجاوز هذا التوازن في المصالح عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي كانت مثيرة للجدل، على أقل تقدير. لدى تركيا تاريخ أكثر حداثة من المواجهة مع روسيا، بما في ذلك في سوريا وليبيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى تفضيل تركيا لثقافة سياسية إقليمية تستند إلى درجة معينة من الديمقراطية التشاركية، في مقابل ارتياح روسي للاستبداد الأساسي. إن فهم هذه الديناميكية يسلط الضوء أيضاً على شيء ما حول الاستجابة التركية للانتفاضات العربية في عام 2011، والمعروفة على نطاق واسع باسم الربيع العربي.
وكما أوضحت ردودها بعدم التدخل على غزو أوكرانيا، تتمتع روسيا بعلاقات أكثر دفئاٍ مع دول الخليج العربية ومصر، وحتى الآن مع بعض داعميها الغربيين، مقارنة بتركيا – وهي علاقة تميزت بمواجهة حذرة. إن تقارب روسيا المتزايد مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستبدادي في القاهرة، والنظام الملكي في الإمارات، يعتمد على دعم الولايات المتحدة للسيسي في أعقاب انقلابه عام 2013، والدعم غير المشروط على ما يبدو من الرئيس إيمانويل ماكرون في فرنسا للسيسي والإماراتيين.
إن فقدان الذاكرة الإعلامي المنظم والجماعي يعيد الآن تصور التدخل الروسي في سوريا باعتباره عملاً مارقاً لدعم الرئيس بشار الأسد، بدلاً من كونه مهمة كانت تعتبر مهمة مناهضة لداعش منسقة مع القيادة المركزية الأمريكية على أعلى المستويات. وغني عن القول إن روسيا دمرت المناطق التي ساعدت نظام الأسد على استعادتها من داعش، في حين أن مدينة مثل الموصل في العراق، التي لا تقل تضرراً من القصف الأمريكي في الحملة ضد داعش، يمكن القول إنها "تحررت".
وعلى الرغم من أن العديد من المراقبين الغربيين انتقدوا تركيا من أجل إطلاقها سياسة خارجية أكثر استقلالية في المنطقة باعتبارها مزعزعة للاستقرار أو حتى عثمانية جديدة، إلا أن الموقف التركي المتغير ليس لغزاً. شهدت بداية الألفية معارضة ثابتة ومعادية للإسلام ضد انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، مما شجع تركيا على التطلع إلى تطوير علاقاتها التاريخية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أتاحت الثورات الشعبية في جميع أنحاء العالم العربي في عام 2011 لتركيا الفرصة للمساعدة في تطوير انفتاحات ديمقراطية أكثر انسجاماً مع نسيجها الاجتماعي السياسي من الاستبداد السائد في المنطقة الذي لا يزال متورطاً مع الاستعمار الجديد الغربي.
وكانت أهم الإجراءات التي اتخذتها تركيا في هذا الصدد على الجانب الآخر من روسيا. وبطبيعة الحال، كان الانتشار الرئيسي للقوات التركية ضد روسيا وحلفائها في سوريا، بالإضافة إلى استضافة أربعة ملايين لاجئ سوري منذ بدء الحرب الأهلية السورية. حافظت تركيا على وجود قواتها في شمال غرب محافظة إدلب في سوريا، بهدف تأمين الحدود لمنع تدفق المزيد من اللاجئين. كما أن الانتشار يمنع الأعمال الانتقامية التي يخشى أن ترتكب ضد السكان النازحين والمناهضين للنظام إلى حد كبير الذين يعيشون في الشمال الغربي وهي مخاوف مبررة. في عام 2020، أدى التوغل التركي في شمال غرب سوريا إلى مخاوف من صراع مباشر بين روسيا وتركيا، بعد مقتل 34 جندياً تركياً في غارة جوية في إدلب.
منذ تعزيز وجودها في إدلب، لم توفر تركيا الحماية العسكرية للمدنيين السوريين فحسب، بل وسعت البنية التحتية للكهرباء التركية من أجل توفير الطاقة، وتم تداول الليرة التركية بشكل غير رسمي، مما يوفر استقراراً نسبياً مقارنة بالليرة السورية التي تم طمسها. وفي غضون ذلك، دفعت تركيا الجماعات المتمردة السورية نحو مزيد من الاحترام للمعايير الدولية بشأن حقوق النازحين، في حين نفذت أيضا برنامجاً لبناء المنازل لإخراج اللاجئين من المخيمات.
وكان الانتشار الثاني اللاحق من قبل تركيا ضد القوات المدعومة من روسيا في ليبيا، حيث تدخلت تركيا، بما في ذلك بالطائرات المسيرة، لدعم الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس، والتي كانت محاصرة من قبل أمير الحرب خليفة حفتر وجيشه الوطني الليبي المنشق. وقد اعتمد حفتر، وهو جنرال ليبي يحمل الجنسية الأمريكية كذلك، على دعم مجموعة متنوعة من الإمارات ومصر وروسيا ومنظمتها شبه العسكرية مجموعة فاغنر (على غرار قوة المرتزقة الخاصة الأمريكية، بلاك ووتر)، وحتى فرنسا.
وعلى الرغم من قصف حفتر للمدنيين في طرابلس والأدلة على ارتكابه جرائم حرب، بما في ذلك المقابر الجماعية في بلدة ترهونة القريبة، لم يكن أي منها كافياً لوقف الدعم الروسي أو دعم الامارات، شريك رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة. كانت إيطاليا – الدولة الغربية الأكثر عرضة للخطر، بسبب احتمال زيادة عمليات عبور اللاجئين من ليبيا وجزيرة لامبيدوزا القريبة – الحكومة الغربية الوحيدة التي قدمت أي دعم لسياسة تركيا المتمثلة في دعم حكومة طرابلس.
من جانبها، ذهبت فرنسا، التي غالباً ما ينظر إليها على أنها زعيم معقول لسياسة خارجية أوروبية "مستقلة استراتيجيا"، إلى حد تأييد دور روسيا في ليبيا في صيف عام 2020، وذلك في المقام الأول بسبب الهوس الفرنسي بدعم أي منافس لتركيا في البحر الأبيض المتوسط. وقد خلق ذلك مشهداً لعضو في الناتو يدعم خصم زميل له في الناتو، من أجل إطالة أمد الحرب في ليبيا، بعد سنوات من تدخل الناتو، وتعزيز المصالح الروسية – بقدر ما يصل إلى عكس الأغراض التأسيسية للناتو، برغم قدمها.
وفي الوقت نفسه، أعطت الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب الضوء الأخضر لهجوم حفتر المدعوم من روسيا على طرابلس في عام 2019، وبالتالي أيدت عودة أمير حرب من عهد القذافي، وبالتالي ليبيا، إلى الوضع السابق. وأياً كان استخدامها المثير للجدل للمرتزقة من سوريا داخل ليبيا، فقد عملت تركيا في الواقع على حماية أي مكاسب يمكن القول إنها ظهرت، بما في ذلك تراجع العملية السياسية، من الثورة الليبية وما تلاها من مهمة الناتو الكارثية في الغالب.
ولكن حتى أكثر من كونها على الجانب الآخر من روسيا في هذه الصراعات، فإن تصرفات تركيا تعكس دورها في الانتفاضات العربية. لقد كانت تركيا ملاذاً ليس فقط للاجئين السوريين ولكن أيضا لمعارضيها. ومما أثار غضب السيسي ورعاته الخليجيين، قامت تركيا بتقديم ملاذ آمن للمعارضين المصريين، علمانيين ودينيين على حد سواء، مما يضمن نجاة مئات إن لم يكن آلاف المصريين الموجودين الآن في تركيا من مصير عشرات الآلاف الذين ذبحوا في ميدان رابعة العدوية أو ألقوا بهم في سجون السيسي.
لا شيء من هذا هو تأكيد بعض الحق التركي في التدخل عسكرياً في بلدان أخرى دون تدقيق، ولا لتبرير أوجه القصور السياسية داخل تركيا. إن عدم ليبرالية الرئيس رجب طيب أردوغان، لا سيما رده على محاولة الانقلاب العسكري في عام 2016، تعقد صورة قوة إقليمية طموحة تدعم الحركات الديمقراطية ضد المد الاستبدادي. ومع ذلك، فإن إعطاء الفضل حيث يرجع ذلك إلى السياسة التركية يضيف أيضاً وزناً إلى النقد البناء حيثما كان ذلك مطلوباً – على سبيل المثال بشأن الوضع غير المستقر لحزب الشعوب الديمقراطي ذي الجذور الكردية محلياً، أو الحاجة الماسة إلى عمليات السلام مع الجماعات الكردية داخل تركيا وخارجها.
وإذا كان الدعم التركي لأوكرانيا دليلاً إضافياً على دورها المتنامي في احتواء التوسع الروسي، فإن التاريخ الحديث لدعمها للدول والشعوب والحركات العربية التي تواجه تهديدات الاستبداد أو القهر، بما في ذلك الفلسطينيين، شهد تصادم تركيا مع مصالح الإمارات وفرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة، وليس فقط مصالح روسيا. ما إذا كانت تركيا ترى الآن المزيد من الدعم لسياساتها خارج أوكرانيا سيكون اختباراً قيماً لمدى عمق التزام الغرب الأخير بالديمقراطية، وإذا وصل إلى العالم العربي.