DAWN’s experts are the driving force behind the organization’s mission and vision. Our experts complement our research work and bolster our advocacy efforts.

No posts found!

Read all the latest articles from the DAWN team of Experts and Contributors.

هكذا ببساطة: الحياة والموت في غزة

English

وُلدتُ في عام 1994 في دير البلح بغزة. وهي مدينة صغيرة، يبلغ عدد سكانها حوالي 80,000 نسمة. إنها ليست لندن أو نيويورك. فهناك القليل من الإضاءات أو المباني الشاهقة. لكنها موطني  الذي أحببته دائمًا. أشجار النخيل ترفع معنوياتي. إنها في كل مكان. إذا صعدتَ إلى منطقة مرتفعة في دير البلح، فكل ما تراه: مئات من أشجار النخيل.

معظم السكان مزارعون، أو كانوا مزارعين. في غزة، نقول على سبيل المزاح بأن دير البلح هي المدينة التي ينام فيها الجميع في الساعة السابعة. ليس هناك وقت للمزارعين للاسترخاء. وُلد والدي أيضًا هناك. ولكن مثل معظم سكان غزة، تنحدر عائلتي من بلدات ومدن دُمرت أو طُهّرت عرقيًا لإفساح المجال لإسرائيل.

عاش أقارب والدي في يافا. المنطقة معروفة اليوم باسم مدينة تل أبيب الكبرى. وجاءت والدتي من بئر السبع. وهي مدينة إسرائيلية الآن. قبل بضعة أشهر من ولادة والدي، في عام 1948، طُرد نحو 750,000 فلسطيني من منازلهم فيما يُعرف الآن بإسرائيل. فرّ أجدادي إلى غزة، وكان مصيرنا محتومًا.

عندما وُلد والدي، ذهب جده إلى السوق لإحضار طبيب له. ظهرت طائرة إسرائيلية من العدم وقصفت السوق، فقتلت 150 شخصًا، على الفور. وكان جدي الأكبر من بينهم. وسوف تبحث في السجلات بلا جدوى عن أي ذكر لهذه الحادثة. ولا يزال القليل من الفلسطينيين في دير البلح يتذكرون ذلك. وقد تم محو العديد من مثل هذه المجازر من التاريخ. ولهذا السبب يُفاجأ العالم عندما يقاوم الفلسطينيون في بعض الأحيان.

عاش والدي طوال حياته في دير البلح. وكان من أذكى الناس الذين قابلتهم في حياتي. وكان يتمتع بذاكرة فوتوغرافية: ففي سن الخامسة والسبعين، كان بوسعه تلاوة مقاطع من الكتب المدرسية التي درسها في المدرسة الابتدائية. وكان يتحدث العبرية والإنجليزية والعربية، على الرغم من عدم تمكنه من الالتحاق بالجامعة. لم يكن في غزة جامعة في ذلك الوقت، وعلى أية حال، كان لديه عائلة ليعيلها بعد وفاة والده.

وعندما احتلت إسرائيل غزة في عام 1967، قامت بتفريغ الاقتصاد لجعلنا معتمدين عليها. كان بإمكان معظم سكان غزة إما العمل في إسرائيل أو عدم العمل على الإطلاق. أتذكر أن والدي كان يستيقظ في الثانية صباحًا ليركب حافلة إلى إسرائيل للذهاب للعمل. لم يكن يعود حتى السابعة مساءً. كان يفعل ذلك كل يوم، على الرغم من اضطراره إلى تحمل الإذلال من رئيسه ومن الجنود الإسرائيليين عند نقاط التفتيش.

لم تكن حماس موجودة آنذاك. لكن الروح التي تغذيها كانت تنبع من الإذلال والإيذاء الجسدي الذي تعرض له رجال مثل والدي. كان الجنود الإسرائيليون يحتجزون العمال الفلسطينيين أحيانًا لساعات، أو يأمرونهم بالتجرد من ملابسهم، لمجرد تسلية أنفسهم. كانت والدتي قلقة دائمًا على سلامة والدي. كانت تقضي أمسياتها بجوار النافذة، في انتظار عودته.

لماذا تم القضاء على عائلتي؟ لم يكن هناك سبب. هل كان هناك مسلحون؟ لا. هل كانت هناك صواريخ؟ لا. لقد حولوا منزلي إلى رماد وأنهوا حياة هؤلاء الناس لأنهم فلسطينيون.

- أحمد الناعوق

أخبرني والدي بقصة لن أنساها أبدًا عندما كنت في الخامسة من عمري. قال له رئيسه الإسرائيلي: "لقد خلق الله الإسرائيليين فقط كبشر، أما بقية العالم فكانوا حيوانات، خُلقوا لخدمتهم. ولكن الإسرائيليين الأوائل كانوا يشمئزون من الحيوانات، لذلك طلبوا من الله أن يحولهم إلى كائنات تشبه البشر. وهكذا أصبحتم جميعًا". يبدو أن الكثيرين في إسرائيل ما زالوا لا ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم بشر تمامًا. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بفرض "حصار كامل" على غزة: "بلا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود". وقال: "نحن نقاتل حيوانات بشرية، ونحن نتصرف وفقًا لذلك". 

اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، عندما كنت في السادسة من عمري. توقفت إسرائيل عن السماح للفلسطينيين بالعبور من غزة للبحث عن عمل. وهكذا فقد والدي وظيفته، لذلك اشترى سيارة ووجد عملًا كسائق سيارة أجرة. وهذه نكتة أخرى في غزة: الجميع يعملون كسائقي سيارات أجرة، لأنه لا توجد وظائف أخرى حولهم. ومثل كل ثورة فلسطينية، كانت الانتفاضة الثانية رد فعل على القيود الإسرائيلية المفروضة. يجب على الناس من الخارج أن يحاولوا أن يفهموا: عندما تُجبر على العيش تحت الاحتلال العسكري، عندما تكون مقيدًا ومحاصرًا وخاضعًا للسيطرة، دون نهاية في الأفق، فإنك ستقاوم، وربما حتى، في بعض الأحيان، سترد بقوة.

كانت فترة الانتفاضة الثانية بمثابة فترة تكوينية بالنسبة لي. فقد بدأتُ أفهم ما كان يجري، وما الذي ولدتُ فيه. وفي أثناء ذهابي إلى المدرسة، كنت أشاهد الاحتجاجات والجنازات. وأتذكر دبابة إسرائيلية غزت دير البلح، مدينتي، وقتلت الناس في طريقها. وكانت أصوات طائرات الأباتشي وبنادق إم-16 في كل مكان. وبطبيعة الحال، كنت ألعب أنا وأصدقائي أيضًا. ولكن ذكرياتنا المهيمنة هي ذكريات العنف.

وفي أحد الأيام، عاد أخي الأكبر أيمن أكثر خوفًا من المعتاد. وكان يرتجف. "أيمن، ماذا حدث؟" كان يسير في الشارع عندما قتلت دبابة فجأة ستة من أصدقائه، كلهم ​​في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر. "لماذا؟" كل ما استطاع قوله هو أن الدبابة أطلقت النار على كل من في طريقها.

وتضاف إلى هذه الذكرى ذكريات أخرى. فقد قُتل محمد الدرة، من مخيم البريج للاجئين في غزة، برصاص إسرائيلي بينما كان والده يحاول حمايته باحتضانه. لقد شاهدنا ذلك على شاشة التلفزيون. "وكانت هناك إيمان حجو، بعمر ثلاثة أشهر، من مدينتي. أطلقت دبابة إسرائيلية النار أدت إلى مقتل إيمان بين أحضان والدتها. هكذا ببساطة. ذات يوم اختفى أخي، وكانت والدتي في حالة رعب. قال لها أحد الجيران: "لقد رأينا رجلًا إسرائيليًا يقتل ابنك". لحسن الحظ، كان هذا غير صحيح. لقد نجونا.

طفل فلسطيني ينظر من نافذة منزل دمره القصف الإسرائيلي في رفح، جنوب غزة، 5 يناير، 2024. (تصوير وكالة فرانس برس)

انتهت الانتفاضة وسحبت إسرائيل مستوطنيها من غزة. وأصبح بإمكاننا الآن التحرك بحرية أكبر. ولكن عندما فازت حماس بالانتخابات في عام 2006، فرضت إسرائيل حصارًا على غزة. تزعم إسرائيل دائمًا أنها لا تستهدف المدنيين. ولكن من الذي يتضرر عندما تكون المواد الغذائية والمياه والغاز والكهرباء محدودة؟

كنت في الثانية عشرة من عمري عندما أُغلقت الحدود. أتذكر أن والدي كان يجمع الحطب كل صباح حتى يتمكن من صنع الطعام لنا. أعادنا الحصار إلى الخلف مئات السنين. لكن كان لدينا تلفزيون، ليذكرنا كيف يعيش الآخرون. أُغلقت جميع المصانع تقريبًا في غزة. وتوقف المزارعون عن العمل بسبب نقص الوقود والأسمدة وقطع الغيار. ولجأ والدي، الذي كان لا يزال يقود سيارته الأجرة لإعالتنا، إلى استخدام الزيت النباتي كوقود. قام الفنيون الإسرائيليون باحتساب الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي نحتاجها للبقاء على قيد الحياة، ولم يُسمح لنا إلا بهذا القدر من الطعام.

في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2008، شنت إسرائيل أول هجوم كبير لها على غزة. كنت في الصف التاسع، أنتظر الامتحان بقلق. لم أدرس كثيرًا وكنت قلقًا بشأنه. وفجأة، سمعتُ انفجارات قوية خارج المدرسة. وكان أول ما خطر ببالي: إنه يوم القيامة. سمعتُ صراخًا ورأيتُ النار والدخان في السماء. لم أكن قريبًا من قصف قط إلى هذا الحد. وبينما كنت أركض إلى المنزل، رأيت الجثث في الشوارع والدماء في كل مكان.

وفي النهاية، قُتل 1,400 فلسطيني في تلك الحرب. وأصيب 5,000 آخرون. وتضرر أو دُمر 60,000 منزل. وعندما توقف القصف بعد ثلاثة أسابيع، حاولنا لملمة أشلاء حياتنا. ولكن بعد ذلك، في عام 2012، اندلعت حرب أخرى. وقُتل نحو مئة شخص في أكثر من أسبوع بقليل. وفي عام 2014، عادت تلك الحرب مرة أخرى. واستمرت تلك الحرب واحدًا وخمسين يومًا. كان القصف في كل مكان ولم يتوقف. وهذه المرة لم تنج عائلتي.

قُتِل أخي، مع ستة من أصدقائي. كان أقرب رفيق لي. نشأنا معًا، والآن بلغتُ التاسعة عشرة من عمري، ورحل. هكذا ببساطة. آخر ذكرياتي عنه هي وجهه المغطى بالدماء. أما أصدقائي، فقد دُفِنوا ​​تحت الأنقاض لمدة ثمانية أيام. وعندما تم انتشال جثثهم في النهاية، خلال "هدنة إنسانية"، كانت قد بدأت جثثهم في التحلل.

لم أعد كما كنت بعد تلك الحرب. قضيت أيامي بجانب قبر أخي. وعندما تواصلت معي صديقة أمريكية تدعى "بام" على الفيسبوك، قلت لها: "أنا بخير". فأصرت: "لا، أخبرني بشيء حقيقي". وتدفقت مشاعري. شجعتني على الكتابة عن أيمن، للاحتفال بحياته. وبفضل تدريبها، كتبتُ أول قصة لي باللغة الإنجليزية—عن أخي—وقامت بنشرها.

كانت تلك نقطة تحول بالنسبة لي. لقد قرأ قصتي العديد من الأشخاص، وتواصل بعضهم معي لمعرفة المزيد عن فلسطين وتقديم الدعم. لقد أدركت قوة الكلمات في تثقيف الناس في الخارج، وإظهار أننا أكثر من مجرد إحصائيات. لقد أنشأت أنا و "بام" منصة بعنوان "لسنا أرقامًا"، لربط الشباب في غزة بمرشدين في الكتابة من جميع أنحاء العالم.

تُرك العديد من أقاربي لأيام تحت الأنقاض. ذهب أحد أفراد الأسرة إلى منزلي لاستعادة بعض الأشلاء.

- أحمد الناعوق

في عام 2023، دخلت غزة عامها السابع عشر تحت الحصار الإسرائيلي. لم يكن هناك أمل في الإغاثة. ثم شنت حماس هجومًا قيل إنه أسفر عن مقتل 1,200 إسرائيلي، وردّت إسرائيل بهجومها الأكثر تدميرًا على غزة حتى الآن. كنت قد استقريت في لندن بعد الدراسة في المملكة المتحدة بمنحة دراسية، لكنني كنت في إجازة في تركيا عندما بدأ القصف. وعلى عكس عام 2008 و2012 و2014، كنت بعيدًا عن عائلتي أثناء الحرب. كنت أشعر بالقلق عليهم باستمرار.

تجمع معظم أقاربي في منزل والدي في دير البلح. كان المنزل في حي سكني، ولا توجد منشآت عسكرية أو مستودعات قريبة. إذا كان هناك أي مكان آمن، فقد كنا نعتقد أنه هناك. كنت أتصل بهم كل يوم، وأسألهم عن أحوالهم. "نحن بخير، نحن بخير". لكن نفد منهم الطعام والماء. واعترفوا: "الوضع صعب للغاية، لكننا معًا. معًا، سنكون بخير".

كانوا نائمين عندما أسقط طيار إسرائيلي قنبلة على منزلنا في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول في الخامسة صباحًا. هكذا ببساطة. قضت القنبلة على عائلتي.

والدي نصري الناعوق، كان في سن الخامسة والسبعين.

وأختي ولاء، كانت بعمر السادسة والثلاثين، وأطفالها: رغد التي كانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، وإسلام الذي كان يبلغ من العمر اثني عشر عامًا، وسارة التي كانت تبلغ من العمر تسعة أعوام، وعبد الله الذي كان يبلغ من العمر ستة أعوام.

وأختي آلاء، كانت بعمر الخامسة والثلاثين، وأطفالها: إسلام الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، وديما التي كانت تبلغ من العمر اثني عشر عامًا، وتالا التي كانت تبلغ من العمر ثمانية أعوام، ونور التي كانت تبلغ من العمر أربعة أعوام، ونسمة التي كانت تبلغ من العمر عامين.

وأختي آية، كانت بعمر الثلاثة والثلاثين، وأطفالها: ملاك التي كانت تبلغ من العمر اثني عشر عامًا، ومحمد الذي كان يبلغ من العمر تسعة أعوام، وتميم الذي كان يبلغ من العمر ستة أعوام.

وأخي الأكبر محمد، كان بعمر الخامسة والثلاثين، وأطفاله: بكر الذي كان يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، وباسمة التي كانت تبلغ من العمر تسعة أعوام.

ومحمود، كان بعمر الخامسة والعشرين، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان وكان قد تم قبوله للتو في برنامج ماجستير في أستراليا. وهو أخي الأصغر.

لماذا تم القضاء على عائلتي؟ لم يكن هناك سبب. هل كان هناك مسلحون؟ لا. هل كانت هناك صواريخ؟ لا. لقد حولوا منزلي إلى رماد وأنهوا حياة هؤلاء الناس لأنهم فلسطينيون. لأن الاحتلال قرر أن الحياة الكريمة ليست لنا، وإذا طالبنا بها، فإن مجرد الحياة ليست لنا.

تُرك العديد من أقاربي لأيام تحت الأنقاض. ذهب أحد أفراد الأسرة إلى منزلي لاستعادة بعض الأشلاء. وضع هذه الأشلاء التي كانت ذات يوم أبناء وبنات إخوتي وأخواني وأخواتي في كيس قمامة وأعطاها لأختي. هكذا ببساطة. بالنسبة لي ومن تبقّى من عائلتي، هذه مأساة ملحمية. إنها أيضًا مأساة ملحمية للعالم. لأن ما سمح العالم بحدوثه لغزة، في عام 2023 وقبل عام 2023، هو وصمة عار لا يمكن إزالتها أبدًا.

 

ملاحظة المحرر: هذا المقال مقتبس من كتاب "الطوفان: غزة وإسرائيل من الأزمة إلى الكارثة" الذي حرره جيمي ستيرن وينر، والذي تم نشره مؤخرًا من قبل OR Books.

شارع مليء بالركام في منطقة حمد الواقعة غرب خان يونس، جنوب غزة، 14 مارس، 2024. (تصوير وكالة فرانس برس)

Source: Getty IMages

Want more insights like this?

Get our newsletter straight to your inbox

Support Us

We hope you enjoyed this paywall-free article. We’re a non-profit organization supported by incredible people like you who are united by a shared vision: to right the wrongs that persist and to advocate for justice and reform where it is needed most.

Your support of a one-time or monthly contribution — no matter how small — helps us invest in our vital research, reporting, and advocacy work.

مقالات ذات صلةالمشاركات

related

ساعدوا "دون" على حماية حياة وحقوق الفلسطينيين في غزة.

إننا نناضل من أجل وقف إطلاق النار ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين المسؤولين عن جرائم الحرب في غزة.