لم تكن الصحفية بسمة مصطفى التي قبضت الشرطة عليها أثناء تأدية عملها المهني في تغطية جريمة قتل الشاب المصري عويس الراوي على يد ضابط شرطة في قريه العوامية بمدينة الأقصر جنوب مصر (عقب مظاهرات بالقرية ضمن سلسلة تظاهرات مناوئة للنظام عمت مصر منذ 20 سبتمبر الماضي) هي أول صحفية يقبض عليها بسبب عملها الصحفي ولن تكون الأخيرة في ظل نظام يعادي بشكل سافر حرية الصحافة وحرية التعبير بشكل عام (قرر النائب العام إخلاء سبيلها مع استمرار التحقيقات معها)
لكن القبض على بسمة، وإخفائها لبعض الوقت قبل ظهورها في النيابة التي باشرت التحقيق معها، وأمرت بحبسها بتهمة نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية كانت هي الحالة الأحدث والأكثر تجسيدا لتغول النظام الحاكم في مصر على حرية الصحافة، والتي كانت هدفا مباشرا للتقييد والمصادرة والإغلاق منذ اللحظات الأولى لانقلاب الثالث من يوليو 2013 بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، حيث تم في الدقائق الأولى للانقلاب إغلاق العديد من القنوات ووقف بث برامجها، واعتقال مذيعيها وحتى الضيوف الموجودين داخل استوديوهاتها.
لم يكن يغيب عن بال بسمة مصطفى الحالة التي وصلت إليها حرية الصحافة في مصر والتي جعلتها تقبع في المنطقة السوداء، وتحتل المركز 166 عالميا من بين 180 دولة. ولكن بسمة امتلكت جسارة مهنية، تفوقت على مخاوفها، وهي صاحبة سجل صحفي حافل في ظل هذا النظام القمعي.
فهي التي كشفت جريمة قتل 5 مواطنين مصريين على يد الشرطة بدعوى قتلهم للطالب الإيطالي جوليو ريجيني للتستر على القاتل الحقيقي في جهاز المخابرات المصري، وهي التي كتبت عن قضية اغتصاب فتاة الفيرمونت على يد مجموعة من أبناء علية القوم، تمكنوا من الهرب خارج البلاد قبل محاكمتهم.
كما أنها كتبت عن جريمة قتل الشاب إسلام الإسترالي على يد الشرطة في منطقة المنيب جنوب القاهرة قبل أسابيع، بالإضافة إلى العديد من التحقيقات الصحفية الجريئة الأخرى.
وقبل كل ذلك هي لم تخرق أي قانون، بل تحركت من القاهرة إلى الأقصر في وضح النهار، وضمن مهمة رسمية من صحيفتها الإلكترونية (المنصة) التي تكتب فيها. لكن جريمة مقتل الراوي لم تكن لدى السلطات كغيرها من الجرائم، فهي تذكر بقصة قتل الشاب السكندري خالد سعيد ونظيره سيد بلال ،واللذين كانا من أسباب اندلاع ثورة 25 يناير 2011، وتخشى السلطات المصرية أن يتكرر الأمر مع الراوي حين تتمكن أي وسيلة إعلامية من الوصول إلى أهله لنقل الرواية الحقيقية والكاملة لقتله.
تبدو الاعتداءات على الصحفيين وحبسهم أمورا روتينية في مصر في الوقت الحالي، حيث يقبع في السجن أكثر من سبعين من مراسلي ومصوري مختلف الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية المصرية والأجنبية العاملة في مصر( وفقا للمرصد العربي لحرية الإعلام).
ويعاني الكثيرون منهم أمراضا مزمنة أو مستحدثة خلال فترة حبسهم تتطلب علاجات خاصة ترفض إدارة السجون توفيرها لهم، وبالتالي تصبح حياتهم مهددة، أسوة بعدد من السجناء السياسيين الذين ماتوا في محابسهم نتيجة هذا الإهمال الطبي، وكان أحدثهم الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة والدكتور عمرو أبو خليل شقيق الإعلامي المعارض هيثم أبو خليل، وبمناسبة الحديث عن عمرو أبو خليل الذي تم القبض عليه بشكل أساسي كعقاب لشقيقه الإعلامي، فإن هناك العديد من الحالات المشابهة لأقارب إعلاميين مصريين يقضون فترات حبس غير مبرر كثمن لقرابتهم لأولئك الإعلاميين، وكنوع من الضغط المعنوي على ذويهم الإعلاميين مثل أشقاء الإعلاميين محمد ناصر ومعتز مطر وهشام عبد الله وحمزة زوبع وعبد الله الشريف الخ.
لا تقتصر انتهاكات النظام الحالي لحرية الصحافة على حبس الصحفيين بل تجاوزت ذلك إلى القتل المباشر. حدث ذلك لعشرة صحفيين ومصورين خلال فض اعتصام رابعة (أغسطس 2013) وفي بعض المظاهرات التالية، خلال العامين 2014 و2015. وبعد أن كانت الملاحقات الأمنية تقتصر نسبيا على المشتبه في علاقتهم أو تعاطفهم مع التيار الإسلامي فقط خلال السنوات التالية للانقلاب العسكري في 2013، فإنها في الموجة الحالية تستهدف بصورة أكبر صحفيين وصحفيات ينتمون للتيار العلماني.
والغريب أن السلطات تتهمهم بالانتماء لجماعة إرهابية والمقصود بها جماعة الإخوان المسلمين رغم أنهم لا يخفون معارضتهم لهذه الجماعة، وهو ما حدث مع بسمة مصطفى مؤخرا، ومن قبلها شيماء سامي وهشام فؤاد وحسام مؤنس، وإسراء عبد الفتاح وسلافة مجدي، وإسماعيل الإسكندراني الخ.
المنع من السفر طال العديد من الصحفيين المصريين أيضا، وتم وضع عدد كبير منهم على قوائم الإرهاب، بما يعنيه ذلك من التحفظ على ممتلكاتهم وحرمانهم من جوازات سفرهم، وبعضهم لا ينتمي للتنظيمات الإسلامية بل هو معارض لها مثل (اليساري) هشام فؤاد و(الليبرالي) مصطفى صقر رئيس تحرير جريدة البورصة، و(الوفدي) عادل صبري رئيس تحرير موقع مصر العربية (أفرج عنه مؤخرا).
كما أن المنع من النشر طال مقالات العديد من الكتاب، وكأن أحدث حالاته للباحث السياسي والصحفي بمؤسسة الأهرام عمرو هاشم ربيع (منعت صحيفة المصري اليوم نشر مقاله)، وكذا للناطق العسكري السابق محمد سمير (منعت صحيفة فيتو نشر مقاله) وهذا المنع جرى بتوجيهات أمنية نظرا لتضمن المقالين انتقادات لانتخابات مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية بالبرلمان المصري).
بالإضافة إلى تلك الانتهاكات السافرة، فإن نظام الجنرال السيسي الذي عبر مبكرا عن رؤية "استحواذية "على وسائل الإعلام ليصبح مثل إعلام الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، سعى مبكرا لتحقيق هذه الرؤية من خلال جهاز المخابرات الذي أنشأ شركات اقتصادية بغرض تأسيس قنوات فضائية ومواقع إخبارية، وكان نموذجها الأبرز شبكة قنوات (DMC).
كما عمد إلى إجبار أصحاب بعض القنوات الأخرى بطرق مختلفة للتخلي عن قنواتهم وبيعها لشركات المخابرات (أمثال رجال الأعمال نجيب ساويرس والسيد البدوي، ومحمد الأمين إلخ) لتتسع دائرة هيمنة المخابرات المصرية على وسائل الإعلام، وتصبح مالكة بشكل كامل أو جزئي لأكثر من 70% من القنوات والمواقع الإلكترونية الخاصة، ولتتحرك هذه المنظومة الإعلامية وفق خطط وسياسات تحريرية موحدة تبرز فقط ما يريد النظام إبرازه، وتخفي ما يريد إخفاءه.
هذا في الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط على مكاتب القنوات والصحف العالمية العاملة في مصر لإجبارها على الالتزام بالرواية الرسمية للأحداث التي تعلنها السلطات المصرية دون القيام بتحقيقات مستقلة، وقد ظهرت آثار هذه الضغوط في غياب التغطية الإعلامية الدولية للمظاهرات التي عمت العديد من القرى والأحياء الشعبية المصرية على مدار أكثر من أسبوع بدءا من 20 سبتمبر الماضي..
وهكذا تعيش الصحافة المصرية أسوأ أيامها، وتكاد تختنق تماما.. فمن ينقذها؟!