DAWN’s experts are the driving force behind the organization’s mission and vision. Our experts complement our research work and bolster our advocacy efforts.

No posts found!

Read all the latest articles from the DAWN team of Experts and Contributors.

تونس: أحرار، محكومون بالمنفى -الاختياري

Avatar photo

حمادي خليفي، كاتب ومحام تونسي مقيم في نيويورك

حمادي خليفي

حمادي خليفي، كاتب ومحام تونسي مقيم في نيويورك

English 

كلما التقيتُ عربيّا في نيويورك، من باب الصدفة في محل للطعام نبحث فيه عن رائحة بيوتنا، أو عند لقاء مسبق للحديث عن الأوضاع أو التخطيط لمشروع ما لجاليتنا المبعثرة في بلد شاسع كأمريكا، يقفز السؤال الأول في مواجهتي تمامًا، وكأنه ضرب من المحاسبة أو العتاب الخفيف من شخص يحبك: " أنت من تونس؟ محظوظ يا عم، بلدكم ديمقراطي."

وأجد نفسي، مرة أخرى، في المنتصف، منتصف الإجابة والموقف والإحساس، هل نحن فعلاً البلد الحر الوحيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا؟ هل نجحنا في بناء ديمقراطية متماسكة على امتداد عشر سنوات مثلما يحسدنا الجميع ويهنئوننا بحب؟ الأرقام والوقائع للأسف، تقول غير ذلك تمامًا.

مالذي يحدث في الشارع التونسي، على أرض الميدان، بعيدا عن المقالات المهللة بالتجربة التونسية؟

الواقع يختلف كثيرا عما تراه في تصنيفات حرية الصحافة وحرية التعبير ومنظمات دولية مثل فريدوم هاوس أو الشفافية الدولية، وأرى انه قد أصبح من واجب قلم حر أن يبين هذا لبقية شعوب المنطقة والعالم.

في بداية سنة ألفين وواحد وعشرين، أي عشرة سنوات بعد ثورة الحرية والكرامة، اعتقلت السلطات التونسية، في ظرف أسبوع واحد، أكثر من ألفي متظاهر دون احترام اي اجراء قانوني، رقم مخيف ينم عن خطوات كبيرة للوراء قامت بها السلطات التونسية الحالية عبر قمع متظاهرين سلميين مطالبين بالاستجابة للمطالب الاجتماعية من عدالة تنموية واجتماعية واقتصادية، ومحاسبة الفاسدين.

تعرّض على صعيد آخر، عديد الموقوفين الى تعذيب شديد، قامت السلطات الأمنية في مدينة المنستير جنوب العاصمة بتعذيب احد شباب الحراك الاجتماعي، مما أدى الى فقدانه لاحدى خصيته، وقد ذكر الشاب أنه كان يتعرض للكي بسجائر رجال البوليس في مناطق حساسة من جسده. تم ايقاف الشاب في السابع والعشرين من يناير من هاته السنة اثناء المظاهرات العارمة التي عمت كافة مناطق البلاد، وقد أدى تعذيبه الى بتر عضو من أعضاءه، في بلد الديمقراطية و"النموذج الناجح للربيع العربي".

نجحت كذلك وسائل الاعلام في الغرب، وخاصة في الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، في تسويق صورة " ثورة الياسمين" في تونس، الثورة المسالمة الجميلة الهادئة التي لم تجلب الا الديمقراطية وسط خراب بقية محاولات الثورة، ربما في أمل من هاته الدول لنجاح بلد واحد من بلدان الربيع العربي، وتقديمه كنموذج يحتذى به، بينما لازالت تونس تتخبط في فساد مخيف مستشري في مؤسساتها الأمنية، والقضائية، والعسكرية، وخاصة التشريعية والتنفيذية، برئيس برلمان تحوم حوله شبهات فساد وصففات اتجار في الاسلحة وفي البشر، وأعضاء برلمان غرقوا في تضارب المصالح والمفاضلة والرشوة والمحسوبية، الا جانب تجند المرفق العدلي لايقاف وتتبع واصدار أحكام بالسجن في حق عشرات المدونين والكتاب سنويا، بل وحتى مصادرة الكتب والصحف (اغلاق صحيفة الثورة النيوز مثلا بقرار قضائي سنة ألفين وسبعة عشر، وغيرها الكثير، يكفي الاطلاع على تقارير منظمة العفو الدولي أو هيومن رايتس ووتش).

أصبحت أشعر فعلا بالخجل حين يصارحني أصدقائي من الخليج العربي أو الشرق الأوسط أو شمال افريقيا بأننا نعيش نعيم الديمقراطية في تونس. كيف أجيبهم؟ هل يعلمون عدد قضايا التعذيب المسجلة في المحاكم العدلية والتي يقع دفنها كل يوم؟ هل لهم فكرة عن حجم القمع الذي يتعرض له الكتاب والفنانون في تونس بمجرد نشر تدوينة أو نص او حتى عمل فني أدي لاحراق منازل البعض منهم وتهديدهم بالقتل ومغادرة الآخرين للبلاد؟ هل يعلم أخوتنا في العروبة وفي الجغرافيا وفي التاريخ مقدار المغالطة؟ ومقدار هشاشة المؤسسات التي أردنا لها أن تكون دستورية حارسة للديمقراطية الوليدة؟ وكيف تحولت هي نفسها لأوكار للفساد والتمعش والابتزاز ومقايضة حرية الناس مقابل صمتهم؟ هل يعلم أصدقائي هؤلاء حين يرطنون بأن "الاجابة هي تونس" بأننا بلد سجن فيه ثلاثة مالكين لوسائل اعلام، وهرب رابعهم خارج البلد، وصودرت فيه الصحف، ويقع تتبع الناشطين والأقليات الجنسية والدينية فيه كل يوم؟ بل لازال يحصل فيه القتل نتيجة التعذيب حتى يومنا هذا؟ وتهريب الأموال من الخزينة العمومية؟ واعتقال الناس لمجرد الشبهة؟ ومنعهم من السفر لمجرد الشك؟ هل يصدق أصدقائي ما أقول؟

أحس أننا، نحن التونسيون، نقع في أسوأ المسافات من بلدنا، فلا نحن في حالة حرب كي نهرب منها، ولا نحن في حالة سلم وتنمية كي نعيش بها.لا نحن أحرار ولا لاجئون ولا مستعبدون. نحن نعيش في الوسط، في وضع البينين المخيف. يكذب علينا الكثير عن قصد أو دون قصد، بوهم أننا نعيش في ديمقراطية ناشئة جميلة، لكنها ديمقراطية مريضة بالفساد وبأزمة اقتصادية أصابت المواطنين في مقتل وقصمت ظهورهم، فلا نعلم مالذي نفعله. هل نبقى أم نغادر؟ هل نناضل أم نتقوقع؟ المعركة لازالت طويلة جدا من أجل ديمقراطية حقيقية في تونس، وهو ما يجب علينا جميعا أن نتذكره بعد غمرة الياسمين التي أصابتنا بخدر لذيذ.

اختار الكثير منا المنفى، ومن بينهم أنا. ربما قد يكون هذا الاعتراف غريبًا بعض الشيء: لكني المنفى الاختياري أقسى بكثير من المنفى القسري: على الأقل، المنفى القسري هو الخيار الوحيد لك، بينما المنفى الاختياري ينبع من قرار ذاتي، أي أنك تتحمل تبعاته، وتبعات التفكير فيه دون توقف، والندم عليه أحيانا، والتأرجح بين جحيم المنفى والاغتراب، وجحيم الوطن ودماره وبؤسه وحزنه الشديد.

نحن نختار المغادرة، ولكننا نخاف الرجوع، نظل معلقين في الوسط تمامًا، نحمل حقائبنا وبلدنا وأفكارنا على ظهورنا، وأرواحنا، وقلوبنا، باحثين عن ميناء مَا يستوعبنا،  مثلما صرخ الشاعر الخالد محمود درويش: 

أنا من هناك 
أنا من هنا
و لست هناك 
ولست هنا
ليَ اسمان
يلتقيان ويفترقان
و لي لغتان
نسيت بأيهما كنت أحلم !

Want more insights like this?

Get our newsletter straight to your inbox

Support Us

We hope you enjoyed this paywall-free article. We’re a non-profit organization supported by incredible people like you who are united by a shared vision: to right the wrongs that persist and to advocate for justice and reform where it is needed most.

Your support of a one-time or monthly contribution — no matter how small — helps us invest in our vital research, reporting, and advocacy work.

مقالات ذات صلةالمشاركات

related

ساعدوا "دون" على حماية حياة وحقوق الفلسطينيين في غزة.

إننا نناضل من أجل وقف إطلاق النار ومحاسبة المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين المسؤولين عن جرائم الحرب في غزة.