نهاد عوض شريك مؤسس ومدير تنفيذي لمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، وهو من أكبر تجمعات المناصرة الإسلامية في الولايات المتحدة. كما أنه يشغل منصب رئيس مجلس الإدارة لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN).
English
قبل ثلاث سنوات، دخل جمال خاشقجي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول لاستصدار بعض الوثائق اللازمة لعقد قرانه الوشيك، ولكنّه لم يخرج قط. عوضاً عن ذلك، وكما خلصت إليه التقارير الاستخباراتية الخاصة بالحكومة الأمريكية، قتل الصحفي السعودي والكاتب في صحيفة واشنطن بوست على يد فريق اغتيال مكون من 15 شخصاً تم إرسالهم من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شخصياً.
رغم أن الطبيعة الوقحة لجريمة قتل جمال صدمت العالم، فإنه حتى بعد مضي ثلاث سنوات على وقوعها، لم يواجه محمد بن سلمان أو أي مسؤول سعودي رفيع المستوى متورط في هذه الجريمة البشعة أي عواقب حقيقية. وبينما يجدد الناشطون والحلفاء حول العالم المطالبة بتحقيق العدالة والمساءلة، أودّ أن أتوقّف وأتذكّر جمال الإنسان، من هو وما الذي ناضل من أجله وكيف يمكن لإرثه أن يبقى حيّاً.
على مدى حياته، كان جمال يعني الكثير من الأشياء للكثير من الناس، من زوج وأب إلى مطّلعٍ على شؤون الحكومة من الداخل ومحللٍ سياسي، إلى صحفي ومعارض سياسي. بالنسبة لي، كان أولاً وقبل كل شيء صديقاً. التقينا في أواخر التسعينيات، حيث سعيت للقائه خلال رحلتي إلى المملكة العربية السعودية. كان يكتب في ذلك الوقت في صحيفة الحياة (صحيفة عربية يومية)، بينما كنت أرأس مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) في سنواته الأولى، والذي أصبح اليوم أكبر منظمة للدفاع عن الحريات المدنية للمسلمين في الولايات المتحدة.
كمتابعٍ نهمٍ لكتابات جمال، كنت حريصاً على مقابلة الشخص الكامن وراء تلك الكلمات وإخباره عن عمل مجلسنا على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. عندما دخلت مكتبه، كنت أتوقع أن أشاهد صوراً لوجوه العائلة المالكة معلقةً على الجدران، حيث لا يمكنك الذهاب إلى أي مكانٍ في الوطن العربي دون أن تكون في استقبالك صورة الحاكم وولي عهده. ولكن وبدلاً من ذلك وجدتني أمام الصورةٌ الرمز لذلك الرجل الوحيد الذي يقف أمام رتل من الدبابات في ميدان تيانانمن في بكين.
وبينما كنا أنا وجمال نتحدث ظلّت عيناي تتسللان مجدداً نحو رجل الدبابة كما كان معروفاً. أخبرتني تلك الصورة عن الرجل الجالس أمامي أكثر مما فعلت أيٌ من مقالاته أو أي مما قاله في تلك المحادثة الأولية. أخبرتني تلك الصورة أن جمال في أعماقه ما هو إلا ناشط.
عندما التقينا أول مرة كان جمال قادراً على تحقيق التوازن بين نقل الحقيقة وانتقاد أوجه القصور لدى النظام السعودي دون أن يقوم الأخير بإسكاته. لكنّ الأمور تغيّرت عام 2011، حيث بدأت المملكة بقمع الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان رداً على ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة.
حاول جمال التكيّف مع البيئة القمعية الجديدة، ونجح في ذلك لفترة من الزمن، ولكن مع مرور السنوات ومضايقة الحكومة السعودية واحتجازها لعددٍ متزايدٍ من أصدقائه وزملائه، باتت ممارسة الرقابة الذاتية أصعب بالنسبة له. وبحلول سبتمبر/أيلول عام 2017، كان قد فصل من عدد من الوظائف الصحفية وأصبح عملياً ممنوعاً من مزاولة المهنة في المملكة العربية السعودية.
وخوفاً على سلامته ولعدم قدرته على فعل ما يحب، ذهب جمال إلى منفاه الاختياري في الولايات المتحدة، حيث بدأ في كتابة عمود في صحيفة واشنطن بوست. وأصبح جمال أخيراً حراً في كتابة ما يريد. وما فعله بهذه الحرية، أعني قول الحقيقة في وجه السلطة، هو الذي كلفه حياته. ولكن رغم أن الموت يطال الإنسان فإن الفكرة والرؤية لا تموت.
كان جمال يؤمن بدور الصحافة في محاسبة الحكومات والمؤسسات الأخرى، وكان يؤمن أيضاً أن الديموقراطية، على عيوبها، تمثل الشكل الأفضل للحكم لبناء عالم ينعم بالسلام والاستقرار. ولهذا وقبل عدة أشهر من مقتله، في يونيو/ حزيران عام 2018، شاركنا أنا وجمال مع شخصين يشابهاننا الفكر في تأسيس منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، وهي منظمة غير ربحية تعمل على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كانت رؤية جمال للمنظمة أن تكون مؤسسةً يمكن من خلالها إسماع أصوات أشخاص مثله، من المعارضين والناشطين والصحفيين العرب وغيرهم من أولئك الذين يملكون رؤىً مبنيةً على الحرية والكرامة لأوطانهم، لأولئك الذين هم في السلطة. وكنا أيضاً نريد منها أن تساعد في محاسبة كلٍ من الحكومات الفاسدة في الشرق الأوسط وداعميها بما في ذلك الحكومة الأمريكية. ولكن مع الأسف قتل جمال قبل أن تؤتي أحلامه أكلها.
لنتذكر ونحن نحيي ذكرى مقتل جمال رؤيته للشرق الأوسط وشمال أفريقيا وندرك أننا لا زلنا بعيدين عن تحقيقها. دعونا نطالب بالمساءلة ليس فقط فيما يتعلق باغتيال جمال، بما في ذلك مطالبة الرئيس جو بايدن بالوفاء بوعده الانتخابي بمحاسبة محمد بن سلمان والمتآمرين معه على هذه الجريمة، بل أيضاً لملايين الناس القابعين تحت قمع وعنف الحكومات في العالم العربي، والذين تدعم حكومة الولايات المتحدة الكثير منهم. دعونا ندعم أولئك الناشطين والمعارضين العرب الذين تجرؤوا على الكلام والتنظيم من أجل تغيير الوضع القائم رغم المخاطر.
جمال خاشقجي كان أحد ضحايا القمع السعودي، ولا يزال آلافٌ آخرون يقبعون خلف القضبان في بلده الأم، حيث يتعرض السجناء السياسيون إلى التعذيب وغير ذلك من الانتهاكات، ولا يزال هناك الكثير من الضحايا المسجونين في دول أخرى في أنحاء المنطقة. إن كنّا بالفعل نريد تكريم جمال فعلينا أن نكافح لا لأجل العدالة له وحسب بل من أجل العدالة للجميع. هذا ما كان صديقي ليريده.